الرأي

تطوير الذات وإديسون.. مغالطات التفوق والنجاح

عبدالعزيز الخضر
القول إن التفوق في الدراسة ليس هو كل شيء وإن للنجاح مجالات كثيرة، أحد الأفكار التقليدية المتداولة في هذا الوقت، خاصة مع انتشار ثقافة «تطوير الذات» التي فتحت آفاقا أخرى في الذهنية العامة لتنوع مسارات النجاح، وإن عدم التفوق ليس هو النهاية في الحياة. تحشد لأجل هذه الفكرة مجموعة قصص لمشاهير وأسماء نجحت ولم تكن متفوقة دراسيا بالمعنى التقليدي في الغرب والشرق ولا زالت تبرز نماذج جديدة من هذه النجاحات لمشاهير كبار. هذا الرأي يبدو مقبولا لتحفيز الآخرين، وعزاء للطالب الضعيف، ولآباء وأمهات يشعرون بالقلق على مستقبل أبنائهم، الذين ينتظرون نتائجهم هذه الأيام. ما هي مشكلة هذه الرؤية؟ من الناحية الواقعية جزء منها صحيح وتصدقها شواهد عديدة، ويكفي متابعة سير كثير من القياديين والمؤثرين في مواقع متنوعة بالعالم ستجد الكثير منهم ليسوا بالضرورة من أصحاب المعدلات المرتفعة دراسيا، وأحيانا يمكن تصنيف مسيرتهم الدراسية بالتعثر والفشل. لكن هذه الفكرة مبتورة وغير مكتملة عند الذين يطرحونها، في كتابات ودورات التطوير الذاتي، وتخلق تشوهات ذهنية في معرفة قيمة ومفهوم وشروط التفوق في كل شيء. هي مقبولة في سياق التشجيع وإحياء الأمل بفرص جديدة لمن فشل في مرحلة أو مسار ما، للتعويض في مسارات أخرى، لكنها تتضمن مغالطات واقعية يجب أن تستحضر بصورة شاملة. هناك خلل إحصائي بتصور الفكرة، لأن الذين مستواهم عادي بالتعليم هم الشريحة الأوسع في المجتمع، وظهور نجاحات متنوعة من هذه الشريحة لا يعني تفوق ونجاح بقية الكسالى في حياتهم وهم الأكثر عددا في كل مجال عمل، ويشتغلون بالحيز الأكبر من المهام في وظائف أقل. ولهذا فاحتمال استمرار فشل الكسلان دراسيا أعلى بكثير من المتفوق في مستقبل حياته. ومن المهم الوعي بأن هذه الفكرة التحفيزية أكثر فعالية في مجتمعات متقدمة فيها تكافؤ للفرص، وليست مجتمعات تنخر فيها المحسوبيات والعلاقات التي تقود إلى مناصب عليا، وحتى في المجال التجاري ليس هناك تكافؤ للفرص في الدول المتخلفة عادة، بحيث تختبر فعلا كفاءة أدائه العملي، ويتدرج في مسار النجاح وفقا لتميزه، فتتسع دائرة الإبداعات والاختراعات، وإنجاز مشاريع نافعة في تلك المجتمعات، بعكس المجتمعات المتخلفة التي تتطور فيها مهارات الوصولية لتحقيق النجاحات الشكلية بدون مضمون حقيقي. وإذا تجاوزنا مشكلة المتعثرين وغير المتفوقين دراسيا فهناك عدة مشكلات حول تصور الشريحة المتفوقة، فهم بالعادة أقلية في كل مرحلة وغالبا مسارتهم المستقبلية محددة، فمشكلة التفوق الدراسي الشكلي أنه أصبح هدفا لوجود إغراء الشهادات والألقاب أكثر من حقيقة التميز المستمر، وإنما من أجل ضمان الوظيفة في ظل وجود تنافس عطالة منتشرة، وطوابير طويلة على الوظائف، فأصبحت أرقام الشهادات تحدد الخانة مبكرا لكل شخص في بداية مشواره العملي. ولا ينتبه كثيرون بأن هذه الشريحة يوجد بداخلها عدة نماذج، فليست هي صورة واحدة، فمنهم غير الموهوب بشيء، وإنما تفوقه نتيجة جهد دراسي فوق العادة وهو متوسط الذكاء، ويشار إليه بمصطلحات شعبية، وهذا ليس عيبا بذاته، لكن تفوقه لن يكون إلا مدرسيا، ويكون مساره في إطار وظيفي محدد، ولن يظهر منه إبداع بالإنتاج العلمي والفكري، وإنما مجرد تجميع ونقل بحت، ولهذه تمتلئ كثير من جامعات ومراكز البحوث في عالمنا العربي، بهذه النوعية من النخب وبعضهم عالة في مجاله الديني أو الفكري أو اقتصادي، ولم يظهر أثرهم بالتنمية، وأصبحوا جزء هيكل الفساد بالألقاب. ولهذا يستغرب البعض كيف تفوق هؤلاء دون أن يظهر منهم إبداع في إنتاجهم وعملهم. خلال نصف قرن كثر التفوق الدراسي النمطي في دول عربية معروفة لكنها اليوم تعيش أكبر مراحل تخلفها التاريخي والفساد وضعف الإنتاجية. لقد تحول التفوق الدراسي في عالمنا العربي إلى نوع من الأمان والضمان الوظيفي للفرد لفرص أكثر وأسرع من الآخرين، مع شبح الطوابير المتزايد في كل مكان. وهناك أشخاص تتعدد مواهبهم ومهاراتهم، ولا يناسبهم التخصص الدراسي الضيق والدقيق الذي يتسم به التعليم الحديث، ولهذا تفوقهم يأتي بصور أخرى بصعوبة كبرى في أجوائنا العربية. إن وضع أسوأ متفوق إحصائيا سيكون أفضل من غالبية الشريحة المتوسطة والفاشلة دراسيا في مسيرة حياتهم، ولهذا فالمقارنات الفردية التي يقدمها أصحاب تطوير الذات ليست دقيقة في عرض المشهد، قيمتها فقط في إعادة الأمل بنجاح آخر، لكنها تحتاج شروطا أخرى فاستحضار مثل إديسون وغيره المكرر دائما في ذهن أصحاب تطوير الذات: هو في حقيقته ليس شخصا لوحده، وإنما بيئات ومجتمعات حية، ولهذا كم إديسون عربي دفن تحت ركام التخلف الاقتصادي والسياسي. alkhedr.a@makkahnp.com