الرأي

مرضى تحت التجربة

إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا «أمير الشعراء أحمد شوقي» ما جعلني لا أتردد طويلا هذه المرة في التذكير بضرورة إصدار مؤسسات حكومية لوائح تنظيمية ومعايير للتجارب الطبية السريرية بشكل عام هو ما تشهده أقطارنا العربية من خلل وتقصير في تطبيق تلك الممارسات، كما أن البحوث العلمية والتجارب الطبية على الإنسان، بما فيها العمليات الجراحية التجريبية غير المسبوقة (المخالفة للممارسة الجراحية المعهودة) أصبحت تجرى بوتيرة متزايدة ومقلقة، وفي ظل تنامي الإعلام غير المسؤول أصبحت إنجازات عظيمة وغير مسبوقة!! في الوقت الذي ينبغي فيه الموازنة بين الطموحات العلمية للباحثين وبين توفر الحد الأدنى من احترام حقوق المرضى وتجنيبهم مخاطر تلك التجارب، فإن غياب المؤسسات الرقابية الحكومية عن تلك الممارسات وبالتالي غياب العقوبة يجعل مصير هؤلاء المرضى مجهولا، ويعتمد بشكل كبير على أخلاق وطموحات هؤلاء الباحثين. صحيح أننا ولله الحمد نحظى بمؤسسات طبية رفيعة المستوى، تقدم خدمات علاجية متقدمة، ولدينا ممارسون طبيون يحظون بكثير من التقدير والاحترام ولهم إسهامات رائدة في نهضتنا الطبية، إلا أن هذا لا يبرر ترك تقدير الأمر لمجرد وازع الضمير الذي قد يحتمي به بعض الأطباء والباحثين. إن التجارب الطبية والبيولوجية، بما فيها العمليات الجراحية التجريبية وغير المسبوقة، والتجارب العلمية على الجنين الآدمي، وتجارب الخلايا الجذعية، والهندسة الوراثية، هي أكثر ما قد يتعرض له الإنسان من ضرر في عصر السعي نحو الحصول على السبق الطبي، فهذه التجارب بطبيعتها تحتمل الكثير من المخاطر، ومن هنا كانت المحاذير التي دفعت الكثير من المهمتين بهذا الشأن في الدول الغربية ومنذ أوائل القرن الماضي للمطالبة بضرورة وضع ضوابط أخلاقية وتنظيمية لمثل هذه التجارب، ورغم ما شهده العالم حينها من تطور سريع واكتشافات عظيمة في مجال الطب ساهمت في إنقاذ حياة العديد من الناس، إلا أن آمال العلماء وطموحاتهم في إحداث نقله طبية قد يتعارض مع الأخلاق وينتهك الكثير من حقوق المرضى، وحدثت بالفعل تجاوزات مشينة ومتكررة لأخلاقيات المهنة أثناء الحربين العالميتين، ثم أثناء زمن الأوبئة في أوروبا وأمريكا إلى أن توصل العالم بعد ذلك إلى إدراج معايير وضوابط التجارب الطبية في الاتفاقات الدولية في إعلاني هلسنكي في عام 1964 وطوكيو في عام 1975. ومنذ ذلك الوقت، أصبحت تلك التجارب محاطة بسياج متين من الحماية الأخلاقية والقانونية، أدرك حينها الباحث الغربي على وجه الخصوص ضرورة احترامها والالتزام ببنودها خوفا من العقوبة، وأصبح الأمر جليا لا يحتمل التأويل، حيث إنه لا يجب إجراء أي تجارب طبية على الإنسان، بهدف البحث العلمي أو الطبي التجريبي إلا بعد أخذ موافقة خطية من المريض بعد أن يتم شرح كل التفاصيل مع ذكر المضاعفات المحتملة، ويجب أن يكون الباحث أو الطبيب قد قام بتجارب مخبرية أو حيوانية موثقة، كما يجب أن تكون المنافع المتوقعة أكثر من المخاطر المحتملة، وهذا يجب ألا يحدث إلا بعد أخذ الموافقات اللازمة من الهيئات الحكومية التي تحظى بنظام مراقبة فعال ومستقل. في الوقت نفسه، فإن شركات الأدوية الكبرى والمستلزمات الطبية ملزمة بالقانون بإخضاع منتجاتها للدراسة المستفيضة المخبرية والحيوانية قبل مجرد التفكير بتجريبها على الإنسان. الذي يحدث الآن أن تلك الشركات وفي ظل صرامة الأنظمة الغربية للسماح بتجربة منتجاتها على الإنسان فإن دول العالم الثالث أصبحت ساحة لتلك التجارب والأبحاث، وإذا انتقلنا بالحديث على وجه الدقة لبلادنا العربية فإننا أمام خلل واضح في تطبيق تلك المعايير، ولو أخذنا على سبيل المثال التجارب الجراحية باستخدام أجهزة أو معدات لم يسبق العمل بها والتي يستحيل توظيفها وتطبيقها على الإنسان في بلدان تلك الشركات تجد أنه لا يوجد ما يمنع من إجرائها بل إنها ولأسباب متعددة تصبح إنجازات طبية!! وإذا كان بعض الباحثين في المستشفيات الحكومية والجامعية يميل إلى هذا السلوك بدافع الطموح العلمي ونيل الدرجة العلمية، فإن بعض الممارسين الطبيين في القطاع الخاص لهم منافع أخرى تسويقية وربحية. وفي كلا الحالتين لا ينبغي أن نركن إلى وازع الضمير الذي قد يغيب مع غياب الأجهزة الرقابية. أما إذا انتقلنا للحديث عن المرضى، فهم لا شك ضحية لتلك الممارسات والتي تحدث أغلبها خارج البلاد خاصة للمصابين بالأمراض المزمنة والمستعصية، كثيرة تلك القصص التي رويت لنا عن بيع الوهم للمرضى، خاصة فيما يتعلق بالعلاج بواسطة الخلايا الجذعية، كما أن التجارب الجراحية باستعمال تقنية وأجهزة غير مسبوقة بإيعاز وتمويل من الشركات الأجنبية لها نصيب كبير في جذب العديد من المرضى للسفر لبعض البلدان المجاورة، وفي الوقت الذي تخلى فيه بعض الأطباء (وهم قلة ولله الحمد) عن أخلاقيات وآداب مهنة الطب، فإنهم روجوا لتلك التجارب على أنها خدمة طبية غير مسبوقة، وهم يعلمون في قرارة أنفسهم أنه يستحيل عليهم مناقشتها بل مجرد عرضها في المؤتمرات الطبية أو نشرها في المجلات العلمية. وإذا كنا نحن الأطباء قادرين على أن نجسد سلوكا حسنا وأن نتحلى بأخلاق ديننا الحنيف، وفي ظل غياب هيئة رقابية لتلك الممارسات، يجب علينا أن نحمي مرضانا من القيام بأي إجراء طبي مبتكر قبل التثبت من جدواه، وتجدر الإشارة هنا إلى أن المستلزمات الطبية والأدوية أصبحت كثيرة ومتنوعة، ويتصف الكثير منها باختلاف النتائج والتطبيقات، وبالتالي يجعل من الصعب إثبات جدواها، بل إنها قد تحمل الكثير من المخاطر التي يجب أن نتنبه لها قبل حدوثها وقبل فوات الأوان. سلطان فهيد التمياط - طبيب مهتم بالشأن الصحي