الرأي

خطابنا الديني والتوجس من التسامح

سليمان الضحيان
كثير من المشتغلين في حقل الدعوة الدينية في عالمنا العربي يتوجسون من مصطلح (التسامح الديني)، فهو مفهوم ملتبس لديهم؛ إذ استقر في وعيهم أن المطالبة بالتسامح الديني يقصد بها التخلي عن ثوابت الدين، أو المذهب، وإزالة الفوارق بين الأديان والمذاهب، وجعلها على قدم المساواة، أي هو في وعيهم مفهوم يناقض الدين، وهذا ما يتطلب مواجهته والتحذير منه. هذا الموقف من التسامح الديني كان له أثر عميق في وعي جمهور واسع من عامة الناس ومثقفيهم ممن يسترشدون بخطابات الدعاة الدينيين، وإذا كانت الأغلبية الساحقة ضد العنف والإرهاب -وهذا موقف محمود- إلا أن المبادئ الفكرية التي تؤدي إلى التطرف، وقد تؤدي إلى العنف تكاد تكون من أساسيات التصور الديني، فما زال الجمهور الواسع في عالمنا العربي له موقف سلبي من الآخر المختلف دينيا أو مذهبيا، وهذا ما يفسر سهولة انتقال الشاب بمجرد ما يلتزم دينيا إلى مرحلة التطرف والعنف؛ إذ إن التصور الديني للموقف من المختلف دينيا موجود لديه قبل التزامه دينيا، فبذرة التطرف كامنة في عقليته، وهذه البذرة تحتاج لظرف مناسب؛ لتخرج نبتة التطرف والعنف، بل إن بعض من يقوم بعمليات إرهابية بقتل جمهور من الناس قد لا يكون له هدف سياسي وإنما الأمر مجرد عملية تطهير ديني لما ارتكبه من الموبقات، ويريد ختم حياته بالانتقام من (الكفار)؛ ليحظى برضى الله. هذا الواقع الذي نعاني منه في عالمنا العربي لفت نظر السياسي فأقام المؤتمرات والندوات الكثيرة لمعالجة هذا الخلل، وتصدت له كثير من مراكز الدراسات، وكل هذا لم يكن له تأثير حقيقي على الواقع، ومع الاعتراف أن الوقائع السياسية كالحروب في العراق وسوريا واليمن لها أثر في إذكاء عدم التسامح، إلا أن هذا ليس عذرا لترك الأمر يستفحل حتى تحول (الإسلام والعرب) في المخيلة العالمية إلى مرادف للتعصب والكراهية والتطرف والعنف. وأحسب أن تصحيح هذا الأمر يحتاج لمعالجتين، معالجة دينية، ومعالجة سياسية، فأما المعالجة الدينية فيقوم بها المعنيون بالخطاب الديني من علماء ودعاة ومفكرين، وذلك بترشيد الخطاب الديني تجاه الآخر، ومما يجدر مراعاته في هذا ثلاثة أمور، الأمر الأول: الفصل في الأحكام الدينية في هذا المجال بين ما يكون في الحرب، وما يكون في السلم، فكثير من الأحكام التي تشكل رؤيتنا للمختلف دينيا إنما هي مبنية على كيفية معاملته وقت الحرب، فقد مالت جمهرة كبيرة من الفقهاء إلى أن آية السيف نسخت كل الآيات التي تحث على التعامل بالرفق مع المختلف دينيا، وهذا الفهم يجب إعادة النظر فيه. والأمر الثاني: إعادة بناء الخطاب الديني تجاه المختلف دينيا على مقاصد الشريعة في حثها على المحافظة على السلم الأهلي، وتقديم قطعيات الدين في التعامل مع المختلف دينيا، فالإسلام قرر أن من حكمة الله أن تظل البشرية مختلفة الأديان كما قال تعالى «ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا، أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين»، وقال عن الحرية الدينية «لا إكراه في الدين»، وهذا كله يستلزم التعايش مع المختلف دينيا بالحسنى؛ لتتحقق مصالح الأمة ومكانتها وسمعتها بين الأمم الأخرى. الأمر الثالث: استقراء التاريخ الإسلامي، وكيف تعامل الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدون مع المختلفين دينيا؟ فقد كان اليهود ضمن نسيج المجتمع في المدينة على حياة الرسول، ومات الرسول ودرعه مرهونة عند يهودي، ولم يضيق علي بن أبي طالب على الخوارج، وقال لهم «لكم علي ثلاث: ألا أمنعكم من مساجد الله، تذكرون الله فيها، وألا أمنعكم أرزاقكم، وألا أبدأكم بقتال»، وعاشت الأقليات المسيحية واليهودية في ظل الدول الإسلامية على مدى التاريخ، لهم دور عبادتهم، يتحاكمون إلى شرائعهم، ويتولون أحيانا مناصب سياسية كبيرة في الدولة الإسلامية. وتعايشت المذاهب الإسلامية في البلد الواحد، فقد كان الحسن البصري يدرس في حلقة في مسجد البصرة، وفي المسجد نفسه حلقة لشيخ المعتزلة واصل بن عطاء، وكان في القضاة الرسميين في القرن الرابع في البلد الواحد من هو على مذهب السنة، ومن هو على مذهب المعتزلة، ومن هو على مذهب الزيدية. وأما المعالجة السياسية فتكون بسن القوانين المجرمة لخطابات التحريض ضد الآخر المختلف دينيا، أو مذهبيا، أو عرقيا؛ لأنه مهما كان تسامح المجتمع فسيكون هنا فئة لا تردعها إلا القوانين، وقديما قال عثمان بن عفان «إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن».