الرأي

مليون لمن يفسر حلمي!

أحمد الهلالي
في مرحلة (مغزل النوم) الثانية من مراحل النوم الخمس، جلس عند رأسي رجل نحيل جدا، رأسه يشبه علبة الحليب المجفف الكبيرة، ولا معالم تفصح عن هويته أو جنسه أو دينه، انحنى إلى أذني وهمس بصوت كصوت الطفل الصغير: أتنام؟ ثم كررها ثلاثا، ولم أجبه، فانتقل إلى الأذن الأخرى، ورفع صوته: ألم تكتفوا من نومكم السرمدي؟ فأجبته: ماذا تقصد؟ فجلس على صدري، حتى سمعت (تكتكة أضلاعي)، أحاول دفعه عن صدري لكن يدي لا تتحركان، حاولت تحريك صدري فكان عصيا جدا، فكرت في ركله بقدمي من الخلف فكانتا مشلولتين، لا أستطيع النظر إلى عينيه الناريتين، فاستسلمت استسلام المريض للجراح بعد حقنة البنج، فسألته: ماذا تريد؟ خلع رأسه الكبيرة ووضعها إلى جواري، فنبت رأس يشبه رؤوسنا البشرية لولا أن عينيه تتوسطان أنفه وشفتيه، تتحرك كل واحدة منهما دون ارتباط بالأخرى، ثم قال بصوت كأنه صوت (يعقوب الكندي)، يا بني، بالله عليك هل يسركم حالكم؟ أهذا ما خلقكم الله له؟ أكل هذه الأكوان العظيمة التي خلقها الله لم تلفتكم؟ ولم تحرك في عقولكم توقا إليها؟ نظرت إلى عينيه، في رأسي الكثير من الإجابات والأسئلة، حاولت الإجابة، فوضع أصابعه الثلجية على (فمي) واستطرد، إني في غاية الأسى عليكم يا أمة محمد، وأنتم لم تعرفوا عن هذه الدنيا بكل تعقيداتها إلا (تفاهتها وجناح البعوضة) فأشغلتم أنفسكم فيها (عبادا جهالا)، وتجاوزتموها إلى القبر والآخرة وأنتم أحياء عليها (موتى)، فلو أراد الله أن تكتفوا (بالعبادة والتسبيح والدعاء) لاكتفى بالملائكة وما خلقكم، أو لأبقاكم في الجنة وما استخلفكم في الأرض، وملأ كتابه بذكر الكون والتدبر والتفكر والسير المفضي إلى مراتب الإيمان العليا. رفع يده عن فمي، فقلت: إن فينا علماء؟ فأعادها سريعا إلى فمي، وبكى حتى بلل صدري بدمعه الأسود، وقال وهو يتناشج: أفيكم علماء؟! لا أمر من جهلكم إلا محاولة إقناع الآخرين به، يا بني ليس فيكم علماء مطلقا، كان علماء المسلمين الأوائل متبحرين في كل العلوم، أما اليوم فقد أركسكم الجهل في التخصص، فهل يتغير طعم الليمونة وهي محصورة في قشرتها؟ فأي معرفة ترومون بناءها وكل متعالم فيكم يتقوقع في حلزونة تخصصه، ابحث في سير العلماء الأوائل وعلماء الأمم وسترى أن (التخصص) أكذوبة عصركم، وقد فصلتم المعارف عن بعضها، فلم تعد تتلاقح وتفتح لكم آفاقا. اختزلتم العلم في (الدين) وقصرتم (العالم) على الفقيه، وضيعتم المعارف بالتخصصات، فلا حزتم علما دينيا غير ما حازه الأوائل، وما فتحتم مغاليق علوم الدنيا، فأصبحتم عالة على (العالمين)، كل علومكم (قال فلان الذي نحبه، وكذب فلان الذي نكرهه)، ثم طبقتم قول الله على لسان الملائكة «أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك» فسفكتم دماء بعضكم بعضا وما زلتم تسفكون، وأغضى جهلكم عن بقية الآية «قال إني أعلم ما لا تعلمون»، فالملائكة تسبح وتقدس الله، وليس (الغني الحميد) في حاجة إلى تقديسكم وتسبيحكم، فقد استخلفكم لغاية العبادة، فأخذتم بطرف منها وأعرض جهلكم عن الباقي. صحوت الصباح، أشعر بحرارة متوهجة على فمي، ظننته ضياء الحكمة، فوجدتها آثار أسناني في سكرات الحلم الممتد إلى المرحلة الخامسة (النوم العميق). alhelali.a@makkahnp.com