الرأي

الفن التشكيلي ومأزق الجمهور

يعتبر فن الرسم من أول الفنون التي أبدعها الإنسان القديم على جدران الكهوف والصخور وفي سفوح الجبال، حيث نشاهد اليوم الكثير من أشكال الحيوانات والنباتات في المتاحف وفي المناطق السياحية من العالم. واستمر فن الرسم رفيقا للإنسان في مراحل تطوره المختلفة كوسيلة للتعبير الفني والإبداع، وأدركت المدنية المعاصرة أهمية هذا الفن حتى اعتمدته الألعاب الأولمبية كأحد فروع النشاط الإنساني من عام 1912 وخصصت له ميداليات باعتباره من فروع الفنون التي تعبر عن قدرات الإنسان مثل الرياضة، ومنحت ميداليات أولمبية لفنون الرسم والنحت والموسيقى بالإضافة إلى الكتابة والهندسة المعمارية. ولكن وللأسف حذفت هذه الفنون ومنها الرسم بعد موسم أولمبياد 1948 لعدة أسباب منها: اشتراط أن تكون للأعمال علاقة بالرياضة، ضيق مجال المشاركة الإبداعية عند الفنانين، كما أن اشتراط أن تكون المشاركة لغير المحترفين جعل المشاركات متواضعة المستوى، بالإضافة إلى صعوبة التحكيم وتفاوته، حيث لا يمكن أن يقاس الفن مثل الرياضة بالسرعة أو المسافة أو عدد الأهداف، وبهذا خرجت الفنون من هذه الفعاليات السنوية وبقيت الألعاب الرياضية. ويشهد العالم المتمدن اليوم اهتماما بالفنون التشكيلية ويعتبرها إرثا ثقافيا ورصيدا يضاف إلى إبداعاته المختلفة ويؤسس لها المتاحف وصالات العرض وبيوت المزادات وقوانين الاستثمار والاقتناء وإجراءات حماية الملكية الفكرية. كما تقام الاحتفالات السنوية والمناسبات للفنانين والترويج لأعمالهم والدعوة لمعارضهم، حيث يتسابق الهواة والمحترفون والمقتنون عليها. ويمكن القول إن نشاط الفن التشكيلي في المملكة العربية السعودية بدأ في الخمسينيات من القرن الماضي بظهور مواهب من الرواد أمثال الأستاذة صفية بن زقر التي حصلت أخيرا على تكريم الدولة، والمرحوم الأستاذ عبدالحليم رضوي الذي نال الكثير من التكريم في الداخل والخارج نظرا لنشاطه المميز. وعلى الرغم من مرور أكثر من ستة عقود على هذه البداية إلا أن دور المؤسسات الرسمية والأهلية في تشجيع ورعاية هذا الفرع من الفن ما زال أقل من احتياجات الفنانين للنهوض بالنشاط التشكيلي وما زالت الساحة التشكيلية تفتقر لكثير من الدعم والمؤازرة، وما حدث مؤخرا من نهاية مؤلمة لبيت الفنانين التشكيليين دليل على ما يعانيه هذا النشاط من واقع صعب، حيث أمرهم المالك بإخلاء المكان بسبب عجزهم عن سداد الإيجار بعد نشاط استمر ثلاثة عقود، وإن كان متواضعا. وتحتضن مدينة جدة وحدها أكثر من خمسمائة فنان تشكيلي كان يجمعهم البيت الذي أغلق من أشهر فتفرقت بهم السبل. وكنت خلال رئاستي للبيت لمدة أربعة أعوام أبحث مع زملائي من المسؤولين في البيت بشتى الطرق لزيادة الحضور من خارج الوسط الفني وجلب المقتنين أو حتى المتذوقين من المجتمع لتوسيع دائرة مرتادي البيت محاولة منا إلى رفع مستوى الذائقة الفنية لدى العامة ورفع مستوى المشاركة في الفعاليات الفنية التي يقيمها البيت من ورش عمل ومحاضرات ودورات تدريبية، وكان المأزق يتكرر دائما، ومعظم محاولاتنا تنتهي عند تجمع نفس الفنانين وأصدقائهم وأقاربهم ليس إلا، وقلما يستجيب الناس لدينا لحضور معرض فني أو أي نشاط على هامشه الأمر الذي يجعل الدائرة في هذا المجال تنغلق على أبناء الساحة وحدها دون غيرهم، وتجدهم في اليوم الأول من الافتتاح ثم ينفض سامرهم ليخلو المعرض بعد ذلك في الأيام التالية إلا من عابر أو مستعجل، وقلما تجد مقتنيا يتردد على معرض فني إلا قليلا بالرغم من تفوق الكثير من الفنانين وتمكنهم من أدواتهم ومن الاتجاهات الفنية المختلفة التي يشاركون فيها الكثير من الفنانين في العالم. وبالأمس القريب دعيت في جدة إلى تظاهرة فنية رائعة، شارك فيها مجموعة من الموهوبين بأعمال نالت إعجاب الحضور والذين كان معظمهم وأغلبهم من الساحة التشكيلية كالعادة.