الرأي

أول إشارة تاريخية إلى الدولة الوطنية

مرزوق تنباك
مر في تاريخ العالم تجارب عريضة لأنواع من الدول والأنظمة والإدارات البشرية المختلفة مثل الإمبراطوريات الشمولية والدول الدينية والمدنية والقطرية وغيرها، وجربت البشرية كثيرة مثل أنظمة القبائل وحتى العصابات وانتهى المطاف أخيرا بالإنسان إلى نظام الدولة الوطنية حيث انتماء الناس فيها إلى العامل المشترك الذي يأخذ كل فرد فيه أسهما متساوية مع الآخرين ليس له انتماء إلى عرق ولا دين ولا لغة ولا جنس ولا ثقافة ولكنه انتماء إلى الأرض التي تعيش الجماعة عليها بغض النظر عن أي صلة أخرى بينهم غيرها، فمولد الإنسان على أرض ما يجعله أحد أبنائها المنتمين لها لا يسأل عن جنسه ولا لونه ولا دينه، يكفي فقط أنه ابن الأرض ولا شيء غير ذلك. ونحن نعرف أن البشر قطعوا قرونا طويلة في البحث عن رابط يجمع الناس في الدولة الواحدة ولا يفرق بينهم، ويكون لكل فرد في الجماعة وفي المجتمع صلة متساوية مع كل الأفراد والجماعات وعلى مستوى واحد من الصلة والقرابة والحقوق والواجبات. ولم يجد الإنسان في كل بحثه في تجارب السابقين واللاحقين غير الأرض صلة وقرابة لكل من عليها من أبنائها، لقد وجدت فكرة هذا المعنى قديما في الثقافات ولعل من أقدمها ما جاء في الثقافة الإسلامية التي تعد اليوم من أبعد الثقافات عن مفهوم الدولة الوطنية مع الأسف، لكن ذلك لا يمنع أنها في يوم ما فكرت هذا التفكير، تلك هي ما عرف عند المؤرخين المسلمين بوثيقة المدينة المنورة، أو موادعة المدينة كما يسميها بعضهم، ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم وأهل المدينة قد حرروا وثيقة بينهم تجعل أهل المدينة أمة واحدة على من سواهم بصفة انتمائهم للمدينة التي يعيشون فيها جميعا، وقد حققت الوثيقة أو الموادعة المواطنة الأولى بكل شروطها وحقوقها وواجباتها التي نعرفها في الوقت الحاضر، بغض النظر عن الدين واللون والجنس والثقافة وغيرها من الروابط المعتبرة في ذلك الزمن السحيق، فالمسلمون واليهود وغيرهم من أهلها ومن العرب سواسية أمام ثابت واحد هو الأرض وما سواها فتفاصيل غير مهمة، وهذه الوثيقة تنص نصا صريحا على المواطنة مع ضمان الحقوق المتساوية للسكان بغير تمييز من دين أو جنس أو لغة أو أي اعتبار آخر. وفي العصر الحديث عندما انتهى العالم إلى الدولة الوطنية عاد كثير من الكتاب والمثقفين إلى وثيقة المدينة يحاولون بيان سبقنا إلى ما وصل إليه الناس ويعيدون قراءتها، وقد دار الشك حول صحة النص وبعض تفاصيله التي أوردها المؤرخون خصوصا ما جاء في سيرة ابن هشام، ومعلوم بداهة أن كتب السير لا تحقق كثيرا في صحة ما تنشر وإنما تأخذ الخبر على علاته وتكتبه كما نقل إليها، وقد صرح بعضهم بتساهله بالسند ومنهم ابن هشام الذي يورد كل ما سمع ويسجله، أما الوثيقة موضوع هذا المقال فقد نالت في العصر الحديث عناية الشيخ حسن المالكي فقام بتتبع نصوصها في كتب السنن والصحاح وأثبتها في كتابه: (حرية الاعتقاد في الكتاب والسنة)، وقد أزال الشك في صحتها وأصل أسانيدها من كتب السنن ومن كتب التاريخ في روايات صحيحة، وقد تناولها غيره من الكتاب والباحثين ومنهم الأستاذ يوسف أباالخيل وعادل الحربي وغيرهما وتشير إلى أهمية أن يوجد نص صريح يقرر أهمية الأرض والانتماء إليها. لقد كانت وثيقة المدينة أول اعتراف صريح بحقوق المواطنة والعدالة والمساواة بين الناس باعتبار الانتماء إلى الوطن والدولة الوطنية وعدم النظر إلى ما سوى ذلك من مواضعات اجتماعية كانت معتبرة من قبل، والغريب أن هذا السبق في حقوق المواطنة في تاريخنا الإسلامي لم ينل في الحاضر من الدراسات والتحليلات ما كان يجب أن ينال من الاهتمام والبيان. marzooq.t@makkahnp.com