تحرير المسائل على الأصول
الثلاثاء / 29 / صفر / 1438 هـ - 18:45 - الثلاثاء 29 نوفمبر 2016 18:45
عندما انطلق العرب المسلمون من جزيرتهم واجهوا ثقافات أمم غريبة عليهم وبعيدة عما عرفوه في ثقافتهم التي خرجوا بها إلى الناس، وكان موقفهم من تلك المعارف الأجنبية كالفارسية واليونانية والرومانية وغيرها من الحضارات القديمة موقفا علميا في غاية العدل والصرامة، واحترام العلوم لذاتها، سواء في الأخذ منها وقبولها أو الرفض لها ومنعها، ورسموا لذلك منهجا منضبطا وسموا ذلك المنهج (تحرير المسائل)، حيث تعرض المسألة وتعرف تعريفا صحيحا لمعناها ودلالاتها في أصل وضعها عند أهلها ومضامين عملها وتطبيقها على الواقع الذي وضعت له، أي ما يسميه الأصوليون التعريف المانع للخطأ الحادث من سوء الفهم أو الوهم، والجامع للدلالة الحدية، أي لا يختلف على المقصود عندما يطلق الاسم. هذا التحرير للمسائل جعل الاختلاف فيما واجهه المسلمون محدودا، ومكن الحضارة الإسلامية الناشئة من الاستفادة الكبرى من الثقافات السابقة في أمور كثيرة جدت في ثقافة المسلمين ولم يكن لها سابقة في موروثهم الثقافي.
وفي العصر الحديث واجه العرب مسائل وأنظمة أجنبية مثل الديمقراطية والعلمانية والليبرالية والدولة المدنية وغيرها، ولم يفعلوا ما فعل الأصوليون الأولون من تحرير هذه المسائل كما هي في أصل منشئها، بل أخرجوها من إطارها المعرفي وأعطوها وصفا ملتبسا لا يخلو من سوء قصد أو جهل.
فدعونا نحرر مسألة واحدة معاصرة على أصولنا القديمة ولتكن العلمانية ونقُل (العلمانية نظام اجتماعي يضمن العدل والقسط بين الناس في الحقوق والواجبات، ويضمن الحريات ضمن النظام العام، ويحفظ الدين والأموال والأعراض والأنفس والعقل، ويمنع الظلم والعدوان، ويضمن حرية الأديان ويحافظ عليها، ويستطيع أهل كل دين ممارسة شعائر دينهم بحرية وعلانية، ويرعى أماكن العبادة ويحترمها).
هذا التحرير لعمل العلمانية يخرجها من أصولها الفلسفية لأسباب لا نحتاج إلى ذكرها، إلى تطبيقاتها العملية المعاصرة وتكون حينئذ نظاما إداريا لا يتعارض مع الشرائع، ولا يخلو دين سماوي أو وضعي من بعض هذه الأصول أيا كان، وينتفي المحذور الذي صنعته الأدلجة بالنسبة للمسلمين، وتكون الدولة العلمانية راعية للدين وليس منفصلة عنه كما زعم من ينقل مصطلحات من بيئة غير بيئتها مشوها حقيقتها وغير مدرك لوظيفتها. ولو ضربنا مثلا ببريطانيا الدولة العلمانية التي تعيش فيها كل الأديان، وعدد المسلمين فيها ثلاثة ملايين وفيها ما يزيد على ألفي مسجد ومركز إسلامي للعبادة تساهم الدولة بتكاليف بنائها وتدفع أجور القائمين عليها، وترأس ملكة بريطانيا العظمى الكنيسة البروتستانتية، وتقوم بزيارة المساجد وتستمع إلى القرآن يتلى فيها، فهل تعد بريطانيا فاصلة للدين عن الدولة بالمعنى الذي يردده المؤدلجون؟ وكذلك فرنسا التي يعيش فيها خمسة ملايين من المسلمين، وفيها كل الأديان وترعاها بالعناية نفسها التي تنالها في بريطانيا، وفي ألمانيا وكل أوروبا وأمريكا العلمانية تعيش كل الملل، ويضمن النظام في تلك الدول الضرورات الخمس التي تحفظها الأديان السماوية والوضعية.
دعونا نذكر لكم يوم كانت أوروبا دولة دينية للمقارنة، فقد قهرت أهل الأندلس (إسبانيا والبرتغال وجزء من فرنسا) من المسلمين واليهود والقوط الغربيين وغيرهم من الديانات فلم تترك أحدا يعبد الله على غير الكاثولكية، وكان خيارهم القتل أو الخروج أو اعتناق الكاثولكية ولا شيء غير ذلك.
فأيهما كان أرفق بالبشر والأديان، أهي الدولة الدينية في المثال السابق، أم الدولة العلمانية التي يزعم بعض المؤدلجين أنها كافرة بفصلها الدين عن الدولة؟ السؤال الثاني: لو كانت أمريكا وأوروبا دولة دينية كتلك التي احتلت الأندلس، وهي تملك القوة القاهرة التي تتمتع بها في أيامنا هذه، هل كان سيبقى إنسان يقيم شعائر دينه على غير دينهما؟ أظن الجواب واضح. وأما ما ليس واضحا فهل نستطيع أن نتخلص من الإغماء الأيديولوجي الذي لازمنا طويلا في حاضرنا وأخذنا بعيدا عن حقائق الأمور التي لا تستقيم شؤون الناس إلا بها؟ إن المواقف المسبقة الخاطئة عن الأنظمة العالمية وتشويه دلالتها والتحذير منها أفضت بنا إلى غيبوبة معرفية وقفت حائلا دون أن يستفيد العرب والمسلمون مما تبدعه الحضارات الإنسانية، وانتهت إلى نموذج ممسوخ مثل داعش، ما زال المسلمون يدفعون شرهم عن الناس. إن العلمانية في ممارساتها المعاصرة حامية للأديان وصديقة للإنسان، وليس أوضح مما يعرفه الناس كافة في الدول التي تطبقها.
marzooq.t@makkahnp.com