الرأي

مشهد انتحار

مها الحريب
قرأت كثيرا عن الأفكار الانتحارية، كنت أتساءل عن البؤس والوجع اللذين يدفعان الإنسان لأن يضع حدا لحياته، وينفر من التشبث بالحياة كشعور فطري عند سائر البشر. بحكم دراستي النفسية وجدت بعض الأجوبة حول الانتحار كسلوك وكخطوة أخيرة يلجأ لها بعد أن يظن باستحالة مواصلة الحياة وعبثية البقاء في دنيا لا يرى نفسه فيها، بل يراها من خلال نظارة سوداء تحجب عنه كل المتع والمباهج، وكل ما يعطي الإنسان الدافعية حتى يعارك الحياة وينتصر أمام مواقفها، كان الاكتئاب هو الباعث الرئيسي لهذه الأفكار بالإضافة لبعض الأمراض التي من أعراضها الأفكار الانتحارية. خلال زيارة قصيرة لمدينة فرانكفورت وجدت نفسي وجها لوجه أمام تجربة حية ومشهد انتحار حقيقي، فمن فوق إحدى البنايات الشاهقة وقف رجل مهددا بإلقاء نفسه من أعلى المبنى، على الرغم من أن محاولته بدت غير جادة، خصوصا عند تراجعه وجلوسه لمرات عديدة وكأن الهدف هو لفت النظر له، لوهلة ظننت أن هذا التجمع الهائل لسيارات الشرطة خلفه محاولة إرهابية فعزمت على إطلاق ساقي للريح فرارا بنفسي، لكن تجمهر الناس بعيونهم الشاخصة نحو المبنى قطع أي فكرة في رأسي. اللافت هو التجمهر الغفير للناس ما بين ألمان وسياح أجانب وهو ما أثبت أن التجمهر عند أي حادث هو سلوك عالمي وليس حكرا علينا كعرب. ومن هذا الحادث كنت أظن أن سيارات الإسعاف تتأخر عندنا فقط، لكني وجدتها تصل متأخرة هناك أيضا، ومن المشاهدات التي تسترعي الانتباه موقف الشرطة الألمانية التي اكتفت بالمشاهدة دون تدخل جدي لإيقاف المنتحر، عدا بعض المحاولات الصوتية الداعية له بالتراجع عن الانتحار، وكأنه ينتظر دعوتهم ليلغي الفكرة، بالإضافة للصراخ على المارة للابتعاد عن موقع الحدث. أما رجال الإسعاف فلم يحركوا ساكنا حتى ألقى الرجل بنفسه على الأرض وسط هلع الجميع وحينها جاء تدخلهم لإنقاذه، ولكن أشك في نجاته، فدوي ارتطام جسده كان مرعبا مما أصاب بعض المارة بنوبات هيستيرية، فالمشهد كان صادما بحق جعل مفاصلي ترتعد وقلبي ينتفض خوفا في صدري، كانت مشاعر متضاربة تتصارع في داخلي ما بين الشفقة عليه والخوف مما شاهدته. سلوكيات المارة كانت متفاوتة فما بين باك ومصدوم، وبين أم تحضن أبناءها بشدة، وآخر غير آبه بما يجرى، شاهدت كيف انتهى الأمر بسقوطه، فعاد الناس بعده مباشرة لمواصلة طريقهم بعد هذا المشهد التراجيدي. باختصار كانت تجربة تحبس الأنفاس مريرة بحق لن تنسى، وستبقى محفورة في ذهن كل من رآها، وأكاد أجزم أن كل من رآها زاد تعلقه بالحياة. عن نفسي دعوت الله أن يبعد عني كل ما يجعلني ضعيفة أو مستسلمة أمام تقلبات الحياة ومعاركها الصعبة، ويقويني به سبحانه. أعزائي القراء، كان هذا المقال شكلا من أشكال التنفيس الانفعالي الذي كان لا بد منه حتى «أتخفف» من بعض ما علق بروحي.