قوة الكلمة
الكلمات ليست صامتة
الخميس / 9 / ذو القعدة / 1435 هـ - 18:30 - الخميس 4 سبتمبر 2014 18:30
الكلمات ليست صامتة. وليست مجرد أصوات نطلقها، أو أحرف نكتبها، إن الكلمة معنى ندركه وأثر نتركه، الكلمة مسؤولية نتحملها، وأمانة نؤديها. الكلمة في ذاتها طاقة فاعلة وقوة مؤثرة في المتكلم والمتلقي -مستمعا وقارئا- وفي الوجود كله. وفي القرآن الكريم (فتلقى آدم من ربه كلمات). وفي الحياة الثقافية تجد الكلمة حضورها لأنها أداة الفعل والحراك. وقد نتفطن للطاقة العقلية والفكرية في الكلمة فنقوم بتحليلها ونقدها وتركيبها في سياق مختلف. أو إنشاء علاقة ائتلافية أو استبدالية بين الكلمات، وربما نتجاوزها كلها أو بعضها، فعلم اللغة ودلالتها واسع، وأسرارها كبيرة. وخطيرة أيضا. هذا شأن العقل ومداراته، وعلمه وعمله. يبعث الكلمة ويطورها ويشكلها، وربما تتحول إلى قرار يغير مجرى حياة الأفراد والأمم. فكم كان للكلمات من دور في الحرب والسلم. والنزاع والوفاق، والقرب والبعد، والحل والعقد، والبناء والهدم، والوعي والتخلف. كل ذلك في المعنى طيب مبارك. بيد أن الكلمة لا تحمل هذا المعنى الدلالي العقلي فقط. بل في ضلال المعنى قوة عاطفية تدعم العقل في مفهومه وتوسع دلالة الألفاظ إلى آفاق لا يعهدها العقل ولا يعرفها. إنها آفاق النفس وكونها الفسيح (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم) فنحن نختزن في كلماتنا عاطفة كبيرة تؤثر في المعني والدلالة والاستخدام يدركها المتحدث خطيبا أو مؤلفا وكاتبا، أو يدركها المتلقي. وربما لا نتفطن لها ولا ندرك ضلالها، أو لا نحسن التعبير عنها تعبيراً علميا، أو لا نحتاج إلى التعبير عنها باعتبارها أحاسيس ومشاعر يعبر عنها بالحال أبلغ من المقال. كل ذلك وارد وواقع. وصحيح أن الطاقة العقلية للكلمة تمثل المعنى الظاهر. بينما تمثل الطاقة العاطفية المعنى الباطن، أو بتقسيم آخر (المعنى وضلال المعنى) كما عنون بذلك الدكتور محمد محمد يونس علي . كتابه حول الأنظمة الدلالية. لكن الإدراك الدلالي للمعنى الحالي والمتكون للكلمة لا يكون إلا باشتراك الطاقتين وتعاون المعنيين. ومن هنا ندرك السر في الجفاف العاطفي في بعض الخطابات الثقافية والعلمية والدينية والتربوية. بل حتى في الخطابات السياسية والاقتصادية. إن نقصان الخطاب للدفء العاطفي، وإن الكلمة التي لا تحمل حرارة الصدق سوف تكون قاصرة الأثر ناقصة الفعل وسوف تتحول إلى سلال المحذوفات. عندما نتأمل النصوص القرآنية والنبوية. وباعتبارهما أكمل النصوص وأقدسها. نجدها مليئة بالطاقة العاطفية والعقلية بتوازن فريد. يحقق لها الجاذبية الذاتية. وقد حكى القرآن حال الجن لما حضروا القرآن. وأخبار الإنس في ذلك أكثر. ولذا جعل الله تعالى الكلمة هي الجهاد الأكبر (وجاهدهم به -أي القرآن- جهادا كبيراً) وإذا كان هذا واقع الكلمة في كمالها، فإن الترقي للكمال كمال. هذا المخزون العاطفي في كلماتنا يجب استثماره وتوظيفه لصالح حركتنا في الحياة، لأن الكلمة سلاح العصر ونحن نعيش أقوى وأسرع وسائط الاتصال والإعلام. وحين نتوجه إلى التوظيف الاستثماري للطاقة العاطفية في كلماتنا فإن البداية الصحيحة تكون هي التعرف على العوامل التي تسلب تلك الطاقة وتهدرها. لأن توفر الأسباب لا يغني مع وجود الموانع. وهناك أكثر من سبب. ولعلي هنا أركز على سببين بما يتناسب مع المقال: أولهما: كثرة الاستخدام والمبالغة في التداول. مما يؤدي إلى ابتذال الكلمة وبرودها، ومن هنا فنحن مطالبون بتحديث قاموس كلماتنا المستخدمة وذلك بتوسيع ثقافتنا وتعديد مصادرها. ثانيهما: الظروف التي تنبثق فيها الكلمات. وهذه الظروف ليست كلها مما نقع تحت طائلته فلا حول لنا ولا قوة في دفعه. لكن من الظروف ما نحن نصنعه أو نشارك فيه مما يحد من عطائنا. فإذا نشأت كلماتنا في بيئات ناقصة الأدب والمروءة -مثلا- فلأننا نتاج تلك البيئة. ولأجل أن تنطلق كلماتك بطاقتها الفاعلة يجب أن تصنع بيئة تحترم الكلمة وتصقلها. وجميل أن تتغير خطاباتنا الثقافية ومناهجنا التعليمية وفتاوانا الفقهية وكلماتنا السياسية لتحمل في طياتها لمسات العطف ونبع الحب. إن كلمات كتب لها الخلود، وكلمات حركت الوجود. وكلمات غيرت المسار. ستبقى هذه الكلمات نبع الحكمة.