سلم مشعل لمشعل

أعلم أني على وشك الإتيان بأمر قد يُغضبه.. وأنا من اعتاد على الفوز برضاه بقدر ما يعلمه من حبي له وبقدر علمي بما يرضيه من قول أو عمل.. لا غرض فيه ولا هوى سوى إرضاء المولى وصالح الدين والبلد..

أعلم أني على وشك الإتيان بأمر قد يُغضبه.. وأنا من اعتاد على الفوز برضاه بقدر ما يعلمه من حبي له وبقدر علمي بما يرضيه من قول أو عمل.. لا غرض فيه ولا هوى سوى إرضاء المولى وصالح الدين والبلد.. ولأنه يعلم أنه هو.. وسيبقى هو، هنا أو هناك، ولأنه شبَّ على طاعة الوالد من الولد.. ولأن الأيام والليالي عودته ودربته على التواجد والأداء بنفس القوة والإتقان وذات الجَلَد.. فقد تعهد أن يضيف إلى موقعه أيا كان.. وأن يضفي على منصبه إشراقة الأمل.. وإطلالة الأمان.. فكان زينة الشباب حين كان مسؤولا عن رعايتهم.. فأسس للعمل الشبابي قواعد وأرسى له البنيان.. ولم يملك أحد ممن جاؤوا بعده إلى هذا العمل أو ذاك.. إلا أن يضيفوا إلى ما صنع بقدر طاقاتهم ومع كل إمكاناتهم.. وكنت شاهدا على أن نجاحاتهم كانت أمرا يُسعده.. ويعلنه ولم يخالطه يوما طيّ أو كتمان.. وحين اتجه جنوبا.. ارتدى الجنوب أبهى حُلة، حتى ظننا أنه سيصبح الشمال.. واختلط نسيمه بعبير الأماني وعطر الآمال.. وازدانت ذوائب السفوح وتزينت قمم الجبال.. فاستحالت مرتعا لراشدي الهوى وناشدي الجمال. وبعد عقود تعانق فيها الأمل بالعمل.. وامتزج فيها الواقع بالخيال.. عاد إلى مسقط رأسه.. إلى الأرض التي أخرجت للدنيا خير الورى.. عاد إلى البلد الأمين، حيث كان ثراه أول ما لامسته قدماه من ثرى.. وفجر الحب والوفاء في أعماقه طاقات جديدة.. فجعل من المسؤولية والالتزام معبرا ومنبرا.. وقبل أن يشارف العقد الأول على الانصرام.. سلّم مشعلَ مكة إلى مشعل متوهج ليتواصل الإشعاع والضياء في بلد الله الحرام.. فحظيت الناس منه بكل إخلاص وحب واحترام. وانطلقت به رحلة المسؤولية الرابعة لتحط في مدارج التعليم.. واتجه من فوره إلى الفصول يؤطرها من جديد، وإلى العقول ينورها بالمزيد.. من أجل علم يُعمَلُ بمخرجاته.. ويواكب العصر وتطلعاته.. ثم عاد به الأمر الكريم.. إلى منشئه القديم، إلى زمزم والحطيم.. ليواصل عشقا بدأه وهو فطيم.. وليواصل العطاء وهو العاشق للبناء.. مُوقفا ومانعا كل أشكال التهاني والثناء.. ومن هنا جاء الاعتذار له في مطلع مقالي رغم علمي بتوجيهه بعدم الاحتفال، خطابا أو مقالا.. والاكتفاء بالاستمرار في العمل الحاذق.. وفاء وإخلاصا لا يرتبط بقادم ولا يتوقف بمغادرة سابق. ويعلم الله أني ما أردت بهذا قربا، فأنا منه قريب.. ولا توددا، فلستُ عنه غريبا.. ولكني أردت أن يستفيد نفر من الناس من موقفه الفارق في الوفاء.. والغارق في الإحساس.. ومن هذا الإخلاص العابق في وجدانه. ومن ثقة تملأ جوانحه بأن الرجل بمناقبه وليس بمناصبه.. وعلى الرجل ألا يكون كَلّاً على مولاه، وأينما يوجهه يأتي بخير. وهكذا يصنع الولاء مع الثقة بالذات هذه الطاقات المتجددة التي لا يزيدها التنقل والتنوع إلا وفاء وعطاء. وهكذا تستخلص الدروس من مواقف الرجال الذين جُبِلوا على رعاية مصالح العباد.. في سهل أو جبل.. وفي يسير أو عسير.. طالما بقيت مساحة الحب ممدودة، وظلَّت روابط الموَّدة موصولة في كل اتجاه.. وبقي الإيمان راسخا بأن القصد من وراء كل عمل هو وجه الله تعالى دائما.. فالمناصب قد تزول وقد تتبدل، ولكن المنصب الثابت على الدوام هو موقع الإنسان في قلوب الناس، وصورة الإنسان في عيونهم.. فذاك أمر لا يصدر به أمر، ورسوم لا يحددها مرسوم، ومكانة لا تفرضها وزارة أو إمارة.. ولكن يصنعها الحرص على صالح الناس والحب والاحترام. وهناك من الناس من قد يتساءل: ماذا يريد فلان بكل هذا العمل ولِمَ يواصل أداءه وقد آن له أن يتخير ويختار واحدا من أكثر مقاعد الراحة استرخاء وتمددا. وربما ينسى هؤلاء قول رسولنا العظيم، عليه الصلاة والسلام، «اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا.. واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا..». وربما لم يتذكروا قول من أُوتيَ جوامع الكلم «إذا قامت الساعة وبين يدي أحدكم فسيلة واستطاع أن يغرسها فليفعل».. أو كما قال عليه صلوات ربي وملائكته وسلام الناس أجمعين. إنها أعظم خطة في الدنيا من أجل التنمية المستدامة.. وهو سطر أو سطران قد عجزت كل عقول البشر أن تلخص التنمية الدائمة بهذا الإيجاز المُعجِز.. فقد اختار الهادي البشير الفسيلة، وهى نواة حتى تنفلق وتنمو وتثمر تحتاج إلى سنوات طويلة، والوقت، والساعة تقوم.. فلم يقل صلّوا أو ادعوا، بل قال اعملوا وازرعوا.. والله تعالى يقول في محكم كتابه (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون). فأهلا بكل عامل يقصد وجه الله وخدمة الناس. وشكرا لكل من عمل لوجه الله وخدمة الناس. هل عرفتم عن من أتحدث؟! عن أميرنا المحبوب خالد الفيصل.