وأد العطاء
السبت / 12 / صفر / 1438 هـ - 19:30 - السبت 12 نوفمبر 2016 19:30
العطاء شجرة مثمرة وارفة الظلال مباركة الجني والثمار، هو في البيوت عمار، وفي الأوطان تقدم وازدهار، محظوظ من كان في بيته أو عمله شخص معطاء بناء بوجوده يكون الأمان والبركة والإنتاجية المثمرة .
فالعنصر البشري الذي اعتاد أن يعطي بلا قيد أو شرط هو شخص نادر وذو كفاءة عالية.
فأبسط صور العطاء هي «الابتسامة» أن تمنح من حولك كل صباح ابتسامة عذبة توحي لهم بالإيجابية والتفاؤل وحسن الظن بالله.
فالعطاء في الأسرة يتجسد في تضحية الأم وكفاح الأب وحرص الأخ والأخت ومشاركة الصغير للكبير، وثماره في الأسرة تولد حالة من الاكتفاء الذاتي والحصانة الدائمة وبناء علاقات أسرية يسودها الوئام والانسجام، فلا تحتاج الأم لخادمة ولا يحتاج الأب أن يدفع مبالغ إضافية لمدرس خاص، هذه أمثلة بسيطة لبعض صوره في الأسرة، وإذا اتسعت دائرته لتشمل المؤسسة التي يعمل بها الشخص نجده يتمثل في شخصية «الموظف المخلص» الذي يعطي بصمت وهو يرى أنه شمعة تنير للآخرين بكل ما أوتي من قوة، سخر نفسه لخدمة الآخرين أياً كانت منزلته، هو على أتم الاستعداد أن يأخذ ساعات عمل إضافية مقابل أن تظهر النتائج بجودة عالية، ولا مانع لديه أن يقضي ليله كله خلف شاشة الحاسوب ليخرج في الصباح الباكر لعمله وهو يحمل معه «فرحة إنجازه».
كل هذه المعطيات جميلة، ولكن نحن ماذا قدمنا لهذه الصروح الشامخة، للأسف عادة ما نجدهم خلف الكواليس، بعضهم فقدناه في غفلة منا وذهب لرب معطاء كريم أرحم به منا، حيث الجزاء والمكافأة الربانية التي لا تقدر بعطاء البشر، بخلنا عليهم حتى عند رحيلهم أن نكتب مشاركة عزاء تليق بتضحياتهم وجهودهم.
ومنهم من تسرب وفضل الرحيل بصمت وهو يحمل خيبة يخفيها داخل حنايا قلبه فهو يعتبر «قدوة» ومن الصعب جداً أن يتخلى المعطاء عن مبادئه وأخلاقياته ويخبرهم بأنه كان وحيداً لا محفز ولا مشجع، بل كان يعتبره البعض وعاءً مليئا بالخيرات، كل كان يغرف منه بشغف وطمع، وحتماً أنه شعور قاس ومؤلم، ونحن للأسف الشديد بمجتمعاتنا العربية نفتقد لمهارة «الثناء» وهي مهارة بسيطة لا تكلف ولا ترهق، ونتعمد أن نتجاهل أساليب التعزيز والتحفيز، فقد ذكر أحد الدكاترة أنه كان في أحد المطاعم في الخارج، وفجأة دوى صوت قوي أفزع كل من كان في المكان، واتضح أن مصدره سقوط الأطباق من النادلة فإذا بالتصفيق يتعالى من جميع رواد المطعم وهم يرددون بصوت واحد «برافو» لتنتفض النادلة بعد سقوطها لتقف من جديد وهي مبتسمة بروح قادرة على الصمود والكفاح وبثقة لمواصلة المسير بإيجابية واضحة.
وعلى النقيض، حيث إنه من المحزن المبكي في مجتمعاتنا أنهم قد يحاربونك ويقللون من شأنك لأنهم فقط ببساطة يلتمسون فيك روح العطاء، فكم أوراق إنجاز مزقت وتاريخ حافل بالتضحيات نسف، وكم قلوب كانت عامرة بالبذل جرحت، لقد وأدنا العطاء وهو في أبهى صوره بأيدينا وهو حي، وشهدنا جميعا مراسيم دفنه، ووقفنا متفرجين ونحن نرى تفنن الجاحدين في وأده، لقد أوقفنا تدفق ينابيع العطاء ظلما وعدوانا، وحبسناه بسجون موصدة بأقفال الجحود والنكران، وكبتناه بالتطنيش والخذلان، فكم هو مؤلم «وأد العطاء».