هل نلبي نداء ولي الأمر (3)

قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه يوماً «الدينُ النصيحة» قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم.

قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه يوماً «الدينُ النصيحة» قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم. وواجب النصيحة كما ذكرتُ في المقال السابق، لا يسقط إلا بالأداء، وهو واجب أخذ اللهُ ميثاقه على العلماء، بل جعله من صميم رسالة المصطفى صلى الله عليه وسلم. قال تعإلى: «إنما يخشى اللهَ من عباده العلماء» وقال: «فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ» (النحل: 43)، وأهل الذكر هم أهل العلم. هذه المكانة الرفيعة التي أنزلها الله العلماء تتطلب منهم أن يتفكروا ويتدبروا ويعودوا إلى النبع الصافي، إلى القرآن الكريم وإلى السنة المطهرةِ التي لا يخالف فيها حديث آيةً من القرآن، ولكننا ولشديد الأسى والحسرة، ابتلينا في هذا العصر بوابلٍ ممن يطلقون على أنفسهم علماء، كما بلينا بمعاهد وجامعات دينية تمنح الدرجات العلمية الرفيعة (ورقياً)، وصار حمَلتُها بالآلاف، وصار لدينا قوافل منهم كلهم أصحاب فضيلةٍ وسماحةٍ، في كل أرجاء عالمنا العربي الإسلامي. والمصيبةُ أن كلَّ واحدٍ منهم -إلاَّ من رحم ربي- يريد منصباً ومنصةً ومنبراً ومريدين وأتباعا. وزاد الطين بِلةً هذا الجراد المنتشر في فضاء الإعلام، وصارت معظم هذه القنوات تدار بعددٍ ليس بقليل من حملةِ الوهم يتحدثون كما يشاؤون، ويحللون ويحرمون، ولا رقيب، ويُسودون ويُكفرون طبقاً للهوى والهوية، والمذاهب والتبعية. وصادف هذا الغثاءُ أجيالاً من شباب ضائع حائر يصارع موج الفراغ والبطالة التي يزداد ارتفاعاً يوماً بعد يوم، وجيلاً إثر جيل، وصادف أمةً غرقت في بحور الجهالة، حتى ضحكت من جهلها الأمم. وكأنما كان الشباب هم المشاهدين المستهدفين -بقصد أو بدون قصد- من أولئك المضللين الذين جعلوا من الدين تجارةً، وللأسف والحسرة، وقع نفرٌ ليس بقليل من شبابنا في براثن ضلالهم وشراك فتواهم التي أحلت ما حرم الله، وحرمت ما جعله حلالاً، وانقاد بعض «الغلابة والدراويش» بحسن نيةٍ لدجلهم وشعوذتهم. وخُدع كثيرٌ من الطيبين بذقون تغطي معظم الصدر، وبثياب تكادُ تلامسُ الركبة. وإذا بالأمر ينكشف ويتضحُ أنها منظمة عالمية تغذى من أعداء الإسلام، الذين يعرفون قوته الحقيقة والتي لا يقدرون على مواجهتها إلا بالخديعة والدسائس والحيل. لقد كان العربُ في جاهليتهم قوماً لا شأن لهم بالحضارة والقيادة، وإن كان لهم من الأخلاق والشيم ما لا يُنكر، وما يجب أن يُذكر ويشكر. حتى إنه صلى الله عليه وسلم لم يقل: جئت بالأخلاق، وإنما قال وهو من أوتي جوامع الكلم: إنما بعثتُ لأتمم مكارم الأخلاق. ولكنَّ الجاهلية والعصبية القديمة أغرقت العرب في بحور من الدماء، وأمست حياتهم بين غزوٍ وسلب، وقتل ونهب. وحين جاء الإسلام جعل من العرب قادةً للدنيا، وسادةً للأمم. هذه الأمة الواحدة (يوم كانت واحدة)، قهرت التتار، وها هم تتارُ العصر صاروا منا، وهزمت المغول، فعاد بعضنا مغولاً، وردت الصليبيين على يد صلاح الدين، وهاهم أحفاد صلاح الدين يتعرضون لغدر هجمات من خرجوا على أمتهم وذبحوا أبناءها وشردوا أطفالها ونساءها، إنهم خوارج هذا العصر، يجيئون امتداداً لخوارج العصر الأول، كفانا الله شرهم، بل شرورهم. وهنا ينبري لخاطري سؤال: إذا كان ذلك دور العلماء الجهلة المغرضين والمدعين والمتأسلمين، فأين دور علمائنا المخلصين الصادقين؟! تكاسلوا؟! شغلتهم المناصب والقيادات؟! استهوتهم الدنيا؟! لا بأس، فالإسلام دنيا ودين، بالرغم من أن الإسلام لا مكان فيه لمهنة عالم وكذلك الأديان الأخرى، ولو استعرضنا تاريخ علماء الأمة في صدر الإسلام ثم القرنين التاليين، بل لو بدأنا بأنبياء الله عليهم جميعاً الصلاة والسلام، لوجدنا أنهم كلهم كانوا أصحاب حرفٍ يأكلون منها ويكسبون رزقهم، بدءًا من أبينا آدم عليه السلام. جميع الأنبياء كانوا يعملون: آدم عليه السلام كان مزارعا. نوح عليه السلام كان نجارا. إدريس عليه السلام كان خياطا. صالح عليه السلام كان راعيا. هود عليه السلام كان راعيا. إبراهيم عليه السلام كان بزازا (تاجر أقمشة). إسماعيل عليه السلام كان قناصا. يونس عليه السلام كان راعيا. لوط عليه السلام كان راعيا. داود عليه السلام كان حدادا. سليمان عليه السلام كان راعيا. إسحاق عليه السلام كان راعيا. يعقوب عليه السلام كان راعيا. شعيب عليه السلام كان راعيا. موسى عليه السلام كان راعيا. إلياس عليه السلام كان نساجاً. عيسى عليه السلام كان نجارا. رسول الله محمد عليه الصلاة والسلام كان راعي غنم، ثم تاجراً، ورحمة للعالمين بشيراً ونذيراً. وعلى سبيل المثال اشتغل بالتجارة كل من الإمامين الجليلين أبي حنيفة النعمان بن ثابت وأبي عبدالله مالك بن أنس، وقد عرف عن شيخ الإسلام ابن تيمية اشتغالهُ بالجمع والتأليف والتدريس وهو ابن السابعة عشرة. إذا كانت الدول العربية والإسلامية بحكم أنظمة الدول ومرافقها تحتاج إلى بعض منهم فإن هذا الاحتياج لا يتعارض مع مسؤولية العالم والأمانة التي حُملها، وأقلها القدوةُ الحسنة التي لها تأثيرها وأثرها في توجهات الشباب. إنهم علماء دين عظيم، دين الإسلام الذي يرعى أبناءه رعايةً كاملة ليحسنوا الانتماء إليه، فإن فعلوا فقد عصموا ناشئته من كل أنواع الضعف والزيغ وسلموا من السقوط في هاوية الضلال. ولكن أين هذه القدوة وهذا التأثير، وعلماء العالم العربي الإسلامي يخالف بعضهم بعضاً ويجادل بغير الحسنى بعضهم البعض، لدرجة تصل في بعض الأحيان إلى الردة أو التكفير؟ وطال هذا الخلافُ حتى السُّنةَ العمليةَ، التي هي أظهر السنن، والتي رئي صلى الله عليه وسلم يؤديها وقال: «صلوا كما رأيتموني أصلي». ولكن يجيء أهل مذهب ليقولوا لقد صلى (صلى الله عليه وسلم) وهو مطبق على يده اليسرى باليمنى، وقال مذهب آخر بل كان صلى الله عليه وسلم مرسلها على جانبيه الشريفين. ويستغرق جدل وجدالٌ كهذا جهدَ العلماء، ويستنفذ وقتهم، ولا يقدم لنا شيئاً أو يؤخره. لقد آن الأوان أن ينصرف علماء الأمة الأجلاء إلى حماية شباب الأمة وذخيرتها من جحيم التطرف وضرورة التوقف عن كل إرباكٍ يفرقُ ولا يجمع، ويشتت ولا يوحد. ووالله لن يصلح حال آخر هذه الأمة، إلا بما صَلُحَ به أولها، بالعودة الصادقة إلى كتاب الله مصدر الوحي وسر التشريع، والكف عن تمزيق الأمة، الذي يقوده من يدعون العلم وهم كالأنعام بل أضل سبيلاً من أعدائها الكُثر. وأسأل الله أن ينير بصائرنا وأبصارنا وأن يُمنَّ علينا بعفوه وغفرانه. يقول الشافعي يرحمه الله: ولمَّا قَسَا قلبي وضاقتْ مذاهبي جعلتُ رجائي دون عفوِكَ سُلَّما فما زِلْتَ ذا عفوٍ عن الذَّنْبِ لم تَزَلْ تجودُ وتعْفُو مِنّةً وتكرُّما ألسْتَ الذي أوجدتني وهديتَني ولا زلتَ منَّانا علي ومُنْعِما

 

 هل نلبي نداء ولي الأمر؟ هل نلبي نداء ولي الأمر؟ (2) هل نلبي نداء ولي الأمر؟ (3) هل نلبي نداء ولي الأمر؟ (4)

هل نلبي نداء ولي الأمر (5)