معرفة

كيف تشكل اللغة رؤية الشخص للعالم؟

إن اللغة مساحة واسعة تعرف من خلالها الطبيعة الفكرية لمتحدثيها، إنها العالم الذي نستطيع من خلاله العبور إلى أذهان الآخرين، واستيعاب القول والفكرة. وكما تقول الأبحاث فإن اللغة لا تؤثر على طرق التعبير للأشخاص فحسب، بل لها دور مباشر وطبيعي في تشكيل الأفكار وتركيبتها منذ البداية، وهي تعطي التمييز والتنوع في الثقافات المختلفة والمجتمعات كذلك. التجربة أجرت 'ليرا بوروديتسكي' تجربة صغيرة، حيث طلبت من مجموعة من الناس داخل غرفة أن يغلقوا أعينهم ويشيروا في الاتجاه الجنوبي الشرقي. وعلى الرغم من تواجد مجموعة من أساتذة الجامعات البارزين في أمريكا بالغرفة، إلا أنهم أشاروا تقريبا إلى كل الاتجاهات الممكنة مختلفين عن بعضهم البعض، وفي كل مرة تتم إعادة التجربة لم يشر إلى الاتجاه الصحيح سوى فتاة عمرها 5 أعوام من سكان أستراليا البدائيين. علقت 'بوروديتسكي'، وهي أستاذ مساعد في علم الإدراك بجامعة كاليفورنيا بسان دييجو لموقع NPR على هذه التجربة، وقالت: إن الاختلاف بين هؤلاء الأشخاص كان في اللغة التي يتحدثون بها، حيث إن لغة سكان أستراليا البدائيين لا تحتوي على كلمات مثل اليسار واليمين، ولكنها تستخدم اتجاهات البوصلة لوصف الاتجاهات: الشمال والجنوب والشرق والغرب. حيث تجد أحدهم يقول الفتاة غربك هي شقيقتي. تعلم لغة أخرى إذا أردت تعلم لغة أخرى والتحدث بها بطلاقة، فربما ستضطر لتغيير الطريقة التي تتصرف بها بشكل بسيط ولكن ذلك عظيم التأثير، وبالذات كيفية تصنيفك للأشياء وما تلاحظه في العالم من حولك. الباحثون يحاولون حاليا دراسة كيفية حدوث هذه التغيرات في هذا الأمر، وتتحدث 'أنيتا باڨلينكو'، أستاذ علم اللغويات التطبيقية بجامعة تمبل، أنه وعلى سبيل المثال: إذا أراد مجموعة من الناس الذين يتحدثون لغات مختلفة أن يصنفوا مجموعة من الأشياء أو يلاحظوا محيطهم، فسيكون على الأشخاص الذين يستطيعون التحدث بلغتين مختلفتين أن يحولوا تركيزهم للغة التي سيتم استخدامها. حيث تختلف مثلا اللغتان الإنجليزية والروسية في التفرقة بين الأكواب الزجاجية وغيرها من الأكواب، تفرق اللغة الإنجليزية بين الكوب والكأس بينما تفرق بينهما اللغة الروسية على أساس الشكل -chashka ) كوب(،) - stakan كأس) وليس حسب أساس المادة. وبناء على أبحاث 'بافلينكو'، فقد بدأت تدريب مدرسي اللغات على كيفية مساعدة طلابهم من متحدثي اللغة الإنجليزية في تصنيف الأشياء بالروسية. فمثلا يضع الطلبة الأكواب الزجاجية وغير الزجاجية في كومتين مختلفتين، ثم يطلب منهم إعادة تصنيفها بالروسية، أي بناء على شكلها وليس مادتها كما فعلوا في المرة الأولى. وتقول: إنه يمكن لمدرسي اللغات تطبيق أنشطة أخرى مثل هذه، وذلك لتعليم طلابهم بدلا من مجرد حفظ المفردات والكلمات. تشير 'باڨلينكو' إلى أن مدرسي اللغات يرون أن مثل هذه الأبحاث والأنشطة تحقق شيئا لطالما اعتقدوا فيه وأرادوا فعله، وأن هذا سيأخذهم بعيدا عن مجرد تعليم الطلاب كيفية نطق اللغات وترديدها فقط أمام مدرسيهم. وتشير 'باڨلينكو' إلى نقطة مهمة وهي أنه مثلما أثبتت بعض الأبحاث أن الإنسان عند شعوره بالجوع يستجيب أكثر لمحفزات الإدراك المتعلقة بالطعام، فإن التحدث بلغة أخرى بطلاقة يعمل بنفس الطريقة. تأثير اللغة الأم وتذكر 'بافلينكو' أن اللغة الأم للشخص يمكن أيضا أن تكون عاملا مؤثرا، وتستدل على ذلك بما حدث مع الروائي الروسي 'فلاديمير نابوكوف' عند كتابة سيرته الذاتية. حيث كان 'نابوكوف' يتحدث ثلاث لغات، الإنجليزية والروسية والفرنسية، وتم نشر ثلاث طبعات من سيرته الذاتية، صدرت الأولى بالإنجليزية، وعندما طلبت منه إحدى دور النشر نشر سيرته باللغة الروسية، وافق 'نابوكوف' ظنا منه أنه فقط سيقوم بترجمة ما كتبه في المرة الأولى. وعندما بدأ 'نابوكوف' في الترجمة للروسية، تذكر أشياء عد لم يستطع تذكرها في المرة الأولى، مما أنتج كتابا مختلفا في مضمونه نوعا ما في المرة الثانية، ونشر باللغة الروسية. وهذا ما جعل 'نابوكوف' يكتب نسخة ثالثة من سيرته، رغبة منه في تقديم سيرته الذاتية بشكل صحيح للقارئ الأمريكي، واضطر هذه المرة إلى أن يتذكر ما يستطيع عن حياته بالروسية، ثم أعاد ترجمة ما كتبه للإنجليزية. وقامت 'ليرا بوروديتسكي' أيضا في إحدى أبحاثها بدراسة تأثير اللغة الأم للشخص على الذاكرة، حيث درست الاختلافات بين ما يستطيع متحدثو الإنجليزية ومتحدثو الإسبانية تذكره عن الأحداث التي يرونها. ووجدت أنه لم يكن هناك فارق في شهادات متحدثي اللغتين في حالة الأحداث المتعمدة، بينما في حالة الأحداث العارضة أو غير المقصودة اختلفت الشهادات، حيث استطاع متحدثو الإنجليزية تذكر فاعل الحدث بشكل أحسن من متحدثي الإسبانية. تقول 'بوروديتسكي' إن الاختلاف نشأ من الفارق بين اللغة الإنجليزية التي تهتم بذكر الفاعل دائما سواء كان الحدث عارضا أو متعمدا، والإسبانية التي تهمل ذكر الفاعل في حالة الأحداث العارضة. وترى 'بوروديتسكي' ذلك مهما جدا، خاصة في شهادات شهود العيان. الصوت المعارض على الرغم من واقعية ما ورد سابقا، إلا أن 'جون ماكورتر' عالم اللغات بجامعة كولومبيا، وعلى الرغم من اعترافه بوجود هذه الاختلافات فعلا، يذكر أن هذه الاختلافات لا تهم ولا تشكل فارقا حقيقيا في عملية الإدراك. ورغم أن التجارب أثبتت وجود هذه الاختلافات فعلا في عملية الإدراك، والتي يمكن ربطها بالفوارق بين اللغات، إلا أنه يرى أنه لا توجد دلائل قوية على تأثير اللغة التي نتحدثها على رؤيتنا للحياة من حولنا، ويرى أن عملية الإدراك لا تعمل هكذا ببساطة، ويطلق على هذا 'خدعة اللغة'. ويستدل 'جون ماكورتر' على رأيه بإحدى الدراسات، والتي طلب فيها الباحثون من مجموعة من الأشخاص الذين يتحدثون فقط اللغة 'الماياوية'، التي تستخدم أيضا اتجاهات تشبه اتجاهات البوصلة بدلا من اليمين واليسار، أن يقوموا ببعض المهمات منها تذكر المسار الذي اتخذته كرة تتحرك داخل متاهة. ورغم اعتقادنا أن تنفيذ هذا باستخدام اتجاهات اليمين واليسار سيكون أسهل بكثير من استخدام اتجاهات البوصلة، إلا أن الأشخاص عينات البحث أدوا هذه المهمات بسهولة، وأحيانا بكفاءة أعلى، مما أدى بالباحثين للاستنتاج أن اللغة لم تكن عاملا مؤثرا في كفاءة تنفيذ هؤلاء الأشخاص لمثل تلك المهمات. ترد 'بوروديتسكي' على ما يقوله 'جون ماكورتر' بأن هذه الأمثلة لا تنفي استنتاجاتها، ولكنها فقط تدلل على أن اللغة ليست هي العامل المؤثر الوحيد في عملية الإدراك والملاحظة، هناك عوامل أخرى مؤثرة. وتقول إنه مثلما تغير دراسة قيادة الطائرات أو الطب إدراكنا للعالم وتضيف إليه، فإن عملية تعلم كيفية التحدث بلغة أخرى بطلاقة أيضا تحدث بنا بعض التغيرات، وهذا يعني أننا يمكننا تعلم هذه التغيرات كما نتعلم أي مهارة أخرى. وتجمل 'بوروديتسكي' قولها بأن تعلم اللغة يمكن تشبيهه ببرنامج تدريبي شامل، وأنه لا يوجد شيء غريب بشأن هذه التغيرات التي تضفيها اللغة على إدراك الشخص، مثلها مثل التغيرات التي تحدثها عملية تعلم أي مهارة على الإدراك.