الطندباوي ذكريات تأبى الرحيل

لا يكاد أحد يسأل بكر يوسف (75 عاما) القاطن بحي العوالي بمكة المكرمة، عن حاله حتى تنبجس نواجذه غيظا، ويندب حظه وسنوات عمره التي أفناها »هدرا« على حد قوله

u0623u0647u0627u0644u064a u062du0627u0631u0629 u064au0645u0646 u064au0635u0644u0648u0646 u0639u0644u0649 u0627u0644u0637u0631u0642u0627u062a u0628u0639u062f u0627u0644u0625u0632u0627u0644u0629 (u0623u062du0645u062f u062cu0627u0628u0631)

لا يكاد أحد يسأل بكر يوسف (75 عاما) القاطن بحي العوالي بمكة المكرمة، عن حاله حتى تنبجس نواجذه غيظا، ويندب حظه وسنوات عمره التي أفناها »هدرا« على حد قوله. فهو يعدّ نفسه أحد الدخلاء على حي العوالي، فليس هو بمكانه ولا البقعة التي اعتاد عليها ولا حتى الأرجاء التي ترعرع بين حاراتها ولازم جلسات سمرها مع أصدقائه. هو واحد من كثيرين رتقت أسماؤهم وذكرياتهم بحي الطندباوي، وعرفوا فيه على أنهم أبناؤه وأشهر أعمدته. لم يتوان لوهلة عن المضي نحو «حارته» وذاكرة صباه ومن تبقى له من أصدقائه، مستعيدا بزيارته لهم على قارعة مراكيز الحارة رفات الراحلين منهم. مترجلا من سيارته، منتصبا على عكازه، يشير إلى بقايا مترامية أمامه: كان هذا بيتي وإلى جانبه مسجدي الذي أؤدي فيه وأهالي الحارة كل الفروض، لكن لم يتبق لي سوى هذه الشجرة وسجاد القيلولة. ولا ينفك هذا الهرم عن الشكوى لكل من اقترب منه، فبالرغم من انتقاله وتركه للحارة بعد رحيل منزله على هامش أعمال الإزالة القائمة هناك، إلا أنه يعود بحنين نزق وذاكرة مطعمة بلوحات من الماضي، يجلس بجوار منزله وينتظر أصدقاءه. تلك الحارة المكية العتيقة التي اكتست شهرتها من اسمها «الطندباوي»، يتيمة النشأة، عرفت خاوية، بيد أن أولئك المهاجرين من الضفة الأخرى على الكرة الأرضية هم من أججوا الحياة فيها، في الوقت الذي أينعت بشرايينها أشجار «الطندب». وبحسب البعض، فإن اسمها بات لصيقا بها للبئر المرتكزة بأسفل مكة ولا تناقض بين كونها بئرا أو نبتا، فالبئر كانت تحت الشجرة ومكانها المعروف بجوار مسجد الطبيشي. وقد اتخذت منطقة الطندباوي سكنا بالعشاش والصناديق قديما، قبل أن تتحول إلى أحد أكبر الأحياء المكية وأشهرها، وهي تبدأ بعد حارة جرول مباشرة جنوبا حيث كانت تلك المنطقة تحت عمدة واحد، وتمتد إلى شارع جرهم وبداية قوز النكاسة «بداية طريق المفجر» شرقا.

مهاجرو أفريقيا

ومن سكان حارة جرول حسب العرف القديم، المهاجرون من أفريقيا منذ ثمانية قرون، وهم من قبائل كثيرة جدا الهوسا والفلاتة أو الفلاني والبرنو من نيجيريا والتمبكتو والفوتاوي والتراوري من دولة مالي. وقد استقلت الأحياء التي كانوا يقطنونها من حارة جرول وهي الطندباوي والهنداوية. أما الطندباوي فيتبعها الحفاير شمالا، وشرقا مسجد بن حسن في منطقة تسمى فريش وبداية شارع جرهم وحارة البرنو وحارة يمن جنوبا. أما الهنداوية فتتبعها منطقة فريش وما خلفها وجبل أسود وجبل غراب وحارة المجانين خلف الفرع الرئيسي لإسعاف الهلال الأحمر بالمنطقة الغربية وحارة المغاربة المشهورة بـ «حوش بكر».

جرهم وبرنو

إلا أن السيد إسماعيل هوساوي، أحد قاطني حارة المكوار بالمنصور، يقول: «الطندباوي» عرفت بعلاقتها الوطيدة بقبيلة «الزبرما»، إلا أن سكانها الأوائل هم من اليمنيين الذين قدموا بحميرهم وجِمالهم من قبيلة جرهم اليمنية، ولذلك سميت بداية الحارة «بشارع جرهم». ويشير هوساوي بسبابته إلى مساحة واسعة من الحارة مقابل مركز الشرطة القديم اللصيق بفرن الحارة لمالكه يحي الفران «أول من باع الخبز الأسمر في الحارة» والواقع نهاية حارة المكوار على الطريق المؤدية لحارة الطندباوي»، ويقول: هذا المكان المعروف بمجلس اليمنيين وإلى جواره يقع سوق البرنو الذي كانت تكثر فيه النساء البرناويات وهن يمتهن جمع البامية إما لبيعها أو تقطيعها وطهوها ثم بيعها، لذلك أطلق عليه «سوق البرنو»، معلقا على رقعة تتوسط صدر الحارة باتت اليوم سوقا لبائعي الخضار المخالفين لأنظمة الإقامة والعمل: قبل خمسين عاما كنا نتسامر هنا حيث القهوة التي جمعت كثيرا من رجال وأعمدة الحارة، ثم تحولت إلى منشية تضم سوقا كبيرة للجزارين وبائعي الماشية والدراجات الهوائية والخضار بالإضافة إلى الدلالين».

الأنفاس الأخيرة

لكن كل تلك الأحداث باتت في عداد الماضي، فالطندباوي الآن تتأهب للفظ أنفاسها الأخيرة مودعة أبناءها وذكرياتها، تاركة خلفها أرجاء مهشمة ومراكيز مترامية على ناصية الحطام، طُعمت بحكايا وهموم السكان الذين يقتنصون الفرص للهرب من ضوضاء الكسارات وأبخرتها النفاثة، حيث تحفها بيوتا كستها حمرة القدم، حتى الأسواق القريبة منها والمحلات التي ظلت طيلة سنوات مضت موردا للغذاء، ومختلف الخدمات للأهالي هناك، لم تعد على حالها، بل لاحت بانتعاشها إلى مكان آخر.

مسجد الحارة

بعد إزالة المسجد الذي كان واقعا بقلب الحارة، لم يتبق سوى مسجد الكعكي الذي علق عليه أحد السكان قائلاً: إنه بعيد عنا وأحيانا لا نذهب إليه إلا لأداء صلاة الجمعة. كما أن حيرتهم ظلت قابعة في قطع المسافات يوميا للتوجه إلى مساجد الحارات الأخرى القريبة منهم، وبالرغم من ترحيب الجيران بالمصلين من هذه الحارة المجاورة ذائعة الصيت، إلا أن أبناء الطندباوي كانت لهم خطة مغايرة، فقد تمكنوا من بناء مسجد خشبي، بدورات مياه خارجية، وخزانات بمغاسل رملية، يقصدها المصلي لتعبئة إنائه بالماء ثم يشرع في الوضوء وهو مرتكز على قدميه.

القمري يصافح الحياة يوميا

لكل من اسمه نصيب، وعلى ما يبدو فإن حارة الطندباوي جعلت من أسماء بعض سكانها نجوما لامعة في الحارات المكية، فهناك العم موسى المعروف بأبو راسين، جزار من الحارة، وأبو الشامات رجل من الشامية مشهور ببيع الحلويات والمعجنات، وآخر من الجزارين بالطندباوي – حارة يمن، وأبو تاكي وهو مهندس وميكانيكي سيارات قديمة، وقد ترك الهندسة لكبر سنه، وأبو الرجال من حارة المسفلة ويعد أيضا من سكان حارة جرول وقد عرف بكثرة مشاكله وخلافاته في عدد من الحارات المكية، وأخيرا القمري أشهر جزاري الطندباوي القاطن بحي العوالي – حاليا -، والذي اعترف بأنه ترك مهنة الجزارة منذ أن أزيل محله الذي كان بمنشية الطندباوي. وأضاف أنه يزور الحارة التي قضى فيها سنوات عمره ومارس فيها مهنته التي اشتهر بها، ليسترجع أيام صباه. ويقول: اشتقت للحارة ونفحات الماضي البهيج المحفوف بنسائم الأجداد والجيران والأصحاب، أعود إليها كل يوم وكأنني أصافح الحياة من جديد.

محمد أحمد الزرما مؤسس الاتحاد

من بين العقارات كافة التي طالتها أعمال الإزالة، ينتصب منزل محمد أحمد الزرما مصارعا عوامل التعرية، يعرف من ضجيج «الماطور” المؤرق لسكون الأهالي والذين أبدى البعض منهم عدم اكتراثه بالصوت واصفينه «بالمزعج”، لكنهم اعتادوا عليه كما اعتادوا استنشاق الغبار الذي يملأ الأجواء. محمد الزرما من مواليد حارة الطندباوي وسكانها، ذو شهرة واسعة بين السكان ومرتادي الحارة، فهو مؤسس اتحاد ملاك الطندباوي، وقد سبق له العمل إداريا في الخطوط السعودية، إلى جانب عمله وكيلا للأمير عبدالمجيد بن عبدالعزيز – رحمه الله - ويقول «قمت بتأسيس الاتحاد قبل سنتين، والهدف منه هو المطالبة بحقوقنا، فقد كنت امتلك عددا من العقارات بما يوازي 65 عقارا بمساحة إجمالية قدرها 20 ألف متر، إلا أنها جميعها أزيلت ولم يتبق لي سوى هذا المنزل”، مضيفا: أغلب المناطق هنا أزيلت فيها العقارات لكن لم يتم منحنا أسعارا مجزية ونحن الآن نطالب بمضاعفة التعويضات. ثمة حنين يختبئ خلف عتبه وحسرته على رحيل حارته وأصدقائه، بدا جليا حينما قال «ما يربطني بهذا البيت ذكرياتي وطفولتي”. وعلى الرغم من انتقاله إلى حي الشوقية إلا أنه لا يتغيب عن زيارة بيته، فتجده جالسا على سجاد افترشه أمام مدخل البيت، حيث يؤكد أحد السكان «أنه يأتي من الساعة التاسعة صباحا وحتى الحادية عشرة مساء”، مضيفا «لم يمنعه انقطاع الماء والكهرباء من التردد على هذه الحارة التي أوشكت على الاختفاء، فإن لم تجده صباحا بلا شك فإنك ستشهد حضوره على آخر النهار”. يشار إلى أن الزرما هو أول شخص في الطندباوي يقود سيارة من نوع مرسيدس 500 بها هاتف، إضافة إلى أنه أول من أدخل أجهزة التبريد إلى الحارة.

عدنان هوساوي صديق الكفيف

يمضي عدنان هوساوي وهو عسكري متقاعد، ممسكا بيد رجل كفيف بدا أنه صديقه. كانا يعربان عن أشواقهما ويحكي كل منهما للآخر أحدث تفاصيله الحياتية، إلا أن عدنان كان الأكثر انشغالا وبعدا عن الطندباوي، نظرا لظروف عمله التي جعلت منه رحالا غير مستقر منذ التحاقه بالسلك العسكري وحتى زواجه، فقد تغيب عنها لأكثر من ثلاثين عاما. ويقول عدنان (53 عاما)، بيتنا كان يضم نحو عشر عائلات ضمن سور طين، وجميعنا تربطنا صلة قرابة، لكن بعد سنوات من وفاة جدي هدم الجدار الفاصل بين المنازل وانفصلت كل عائلة عن الأخرى وما زالت تلك المنازل ملك لأصحابها. الدخل الوحيد لغالبية الأهالي كان إيجارات المنازل وتحديدا خلال شهر الحج، حيث يعمد العديد من أرباب الأسر لبناء أدوار إضافية من هذا الدخل الذي قد يصل أحيانا إلى ما يقارب 15 – 16 ألف ريال. وأشار هوساوي إلى أن الطندباوي تقع في منطقة مركزية، متعجبا من التعويضات الزهيدة التي تمنح للسكان، مقابل ميزة العقارات الاستراتيجية، لافتا إلى أن غالبية المنازل تعود للورثة، ما يؤدي إلى نشوب خلافات إذ يقرر بعضهم الانتقال إلى مكان آخر، بينما البعض الآخر منهم قد لا يملك ما يعيل به أبناءه سوى راتب التقاعد «مثلي”، فكيف لي بشراء منزل بتعويض متدنّ؟

آدم حسن جبريل وركوب الصعاب

«المضطر يركب صعب»، كانت هذه عبارة آدم حسن جبريل ردا على سؤاله عن سبب بقائه في السعودية على الرغم من تدني الأجر الذي يتقاضاه مقابل مؤهله الجامعي ووظائفه المرموقة التي حصل عليها. ويبرر ذلك بأنه لم يعرف وطنا غير هذه الأرض، فهو من مواليدها وأهله وعشيرته كلهم هنا. آدم جبريل، رجل العلاقات العامة، الملحق في السفارة النيجيرية بالخرطوم سابقا، المتقن لعدد من اللغات منها العربية الأم والفرنسية والزبرماوية والفلاتية والإنجليزية والبرنو والبربرية، يروي كيف أنه ترك الطندباوي عند بلوغه الـ 16 ليكمل تعليمه في تشاد، ثم يتجه نحو الجامعة الأفريقية إثر حصوله على منحة لإكمال تعليمه في العلاقات العامة. ويقول: عدت إلى حارتي بعد حصولي على البكالوريوس إلا أنني وجدت أمورا كثيرة ودعتها منها بسطة عم صديق بائع الحلوى، وركن بائع السحلب، وبرحة الدراجات الهوائية. الآن وقد بلغ 37 عاما، يكمل آدم دراسته للحصول على درجة الماجستير، لكنه ما زال يحمل كتبه مهرولا نحو الطندباوي بعد انتقاله منها، ليستعيد لوحات من أيام الطفولة.

أجمل أيام حمزة موسى حمزة

حمزة موسى حمزة البالغ من العمر 63 عاما، الذي اعتاد الجلوس أمام بيته على سجادته الرثة، يروي كيف أنه قضى أجمل أيام حياته منذ طفولته وحتى شبابه في الحارة، ويقول: من الأمور التي ظلت تداهم ذاكرتي حتى اليوم الأزقة الضيقة التي احتضنتني وأصدقائي عند تنافسنا على لعب كرة القدم. وبنبرة حزن يردف «إلا أنها لم تعد موجودة». وأضاف وهو يشيح بوجهه عن بيته: أجلس هنا يوميا، أتناول كل وجباتي هنا، وحين يشتد أوار الشمس أحتمي بهذه الشجرة، وأستسلم لرؤية المارة علّي أستعيد بضع أيام مضت. حمزة الحرفي الذي عمل بمختلف المهن كالحدادة والنجارة وصناعة الحقائب، هو أب لأربعة أبناء، انشغلوا جميعهم عنه فمضوا نحو مستقبلهم وحياتهم بعيدا عن الحارة، ولم يتبق له سوى زوجته والقليل من أصدقائه، يقضي معظم أوقاته أمام مدخل بيته ينتظر زيارة أصدقائه له ليحدثهم عن حنينه لأيام الصبا، ويشكو لهم حاله، ويقول: هجرني الأمان والاستقرار ولم أعد أشعر بالراحة كالسابق – يقصد قبل أعمال الإزالة – حين كانت البيوت لصيقة بعضها ببعض والجيران والأصدقاء في الأنحاء مجتمعون في النوائب والأفراح، مفصحا عن قلقله من تركه لحارته وبيته. ويقول «العقارات باتت مرتفعة والتعويضات لأغلب سكان الحي غير مجزية، ماذا أفعل إن أخرجوني، أين أذهب وكيف سأدبر أموري؟».