يقول ويطول
الاحد / 29 / محرم / 1438 هـ - 19:30 - الاحد 30 أكتوبر 2016 19:30
نحن نسعد عندما يكلمنا من نحبه أو من يحبنا وتظهر على وجوهنا علامة البشاشة والسرور ونحن نسمع من أولئك كلمات تقول لنا إن الحياة ليست في الوحدة والتوحد بل هي اجتماعيات وثنائيات وانصهارات، وكلام يسمع وكلام يستنشق وكلام يفرح وآخر يأسر.
نحن نتأثر ولا شك بالكلام، ونحن نصغي لمن نهتم بمكانة لغته أو قدرته على جذب الانتباه ونشرد عمن يقول كلاما لا نفهمه أو نرفضه، ولا يستطيع أحد إجبار حواسنا على الانصياع لذوق لا يتفق وما نصبو إليه مهما كانت سلطة المتكلم.
نحن نقتني من مقاطع الكلام في أجهزتنا ما يعبر عن مزاجنا، ونقطع مسافات يوم الجمعة لنصلي في جامع خطيبه صاحب كلام كبير، ونتابع كاتب مقال عنده نكتة أو غرابة أو تجديد.
نحن إذا سافرنا نأمل أن يكون مقعدنا بجانب شخص له كلام شيق نطرد به الملل، ونحن نبذل جهدا في مراجعة كل الكلام الذي نحضره لنلقيه في مجمع أو سنقابل به اتهام المدعي العام، ونحن في الشعر نقطف من أزهار الحروف ما نحاول به تشنيف الآذان، ونحن نعير سمعنا لكل الأصوات الخافتة لنقف على حقيقة ما يدور بين اثنين قد لا يعنينا ما يقولان.
ونحن في أوقات الهدوء يسترعي انتباهنا كلام يخترق هذا النظام، ونفزع لكل مناد فنستفسر ونتسابق لنكون أول المخبرين، ونحن نتكلم يوميا بآلاف الكلمات عن حرية التعبير وندافع عن كل مسجون رأي ومحبوس كلمة ومقتول صحافة، وننتقد كل من يتدخل في رقابة بمقص، ونصنف كتم حريات الكلام جريمة تفوق ابتزاز الفقراء الذين أقعدهم الجوع عن تذكر الحروف الهجائية.
ونحن أول ما نعلمه لأطفالنا الكلام، ونبذل الوسع لينطق الطفل حروفا، ونفرح وهو يتقن جملة ولو خطأ أو تعثرا، وما نلبث أن نضيق ذرعا إذا كبر واعتاد الكلام والاستفسار، ونقول ليتنا لم نعلمه، ثم ما نلبث أن نأمره في مراهقته بالتقليل من الكلام، وكل ذلك بعمليات تدور بكلام وكلام في كلام.
ونحن مغرمون بالأحاديث الجانبية فيما يدعو للإنصات، ومحبون للأحاديث الجماعية فيما يتطلب الانفراد، ومهووسون بالاجتماعات للكلام والمحاربة بالكلام والتفاخر بالكلام والتبجح بالكلام والخطأ بالكلام.
ونحن في ذات الوقت نقول: هو كلام في كلام لا يقدم ولا يؤخر، مع أن الكلام منه تبدأ الأعمال وبه تستمر التفاعلات وإليه يحتكم المتخاصمون وبه يقتل الإنسان ومن أجله يحيا آخرون.
ونحن منا من لا ينام إلا إذا سمع كلاما معينا على اختلاف الأهواء، وحكاية الجدات قبل النوم للصغار كلام، وفي الغالب أن بعضنا لا يستيقظ إلا بالكلام ليوم جديد فيه نشاط وكلام.
لكن في الكلام حياة عندما يكون ترجمة للواقع وتحفيزا للمستقبل وتحضيرا لبرنامج عمل، وفي الكلام حياة عندما تطابقه الأفعال وتبسطه للناظرين السلوكيات، وفي الكلام حياة عندما تتوارثه الأجيال لأن حروفه خرجت من مخارجها الأولية في القلوب قبل أن تخرج إلى مخارجها النهائية في الحلق.
الكلام رصيد وذخيرة، والإسراف في استهلاك مقدرات العقول والأفكار يجعل الكلام مجرد كلام، ولو اقتصرنا على قول ما فعلناه أو فاعلون لكنا صادقين إن تكلمنا عما سنفعله، لكن والواقع يكلمنا بأن الأفواه تبدأ بالكلام عما لا تستطيع أو لا تنوي فعله قبل أن تختم بالكلام عن إنجازات كلها كلام في كلام.
وحين اشتهرت فلسفة «المشهد الصامت» في أمم غيرنا كان هدفهم أن بعض الأحداث تغني عن الكلام، لذلك نحن نتكلم عما لم نره ونتكلم عما لا نراه ولا نستطيع أن نرى ما نتكلم به لأن ما نتكلم به آخر اهتماماتنا، والمؤسف أنه قد ضعف فينا الذي قيل عنه قديما «يقول ويطول» ليس لجرأة وشجاعة فيه فحسب بل لأن حديثه وعمله وجهان لوجه واحد.
ولعل زيادة الناتج المحلي من الكلام تقتضي نقصا حادا في الناتج المحلي من العمل هذه الأيام، ففي الماضي كان الكلام يتطلب وجود من تكلمه وقد لا تعثر عليه بسهولة، أما اليوم فالكلام متاح لأن الطرف الآخر فضاء تواصل أثيري لما يستقر على دعة بعد، ليعج بكلام لن يبقى لكن آثاره لن تزول.
baba.m@makkahnp.com