"الصوم نصف الصبر"

الصبر ثلاثة أنواع: صبر على طاعة الله، وصبر عن محارم الله، وصبر على أقدار الله المؤلمة. وتجتمع الثلاثة كلها في الصوم. فإن فيه صبرا على طاعة الله، وصبرا عما حرم الله على الصائم من الشهوات والرغبات، وصبرا على ما يصادف الصائم من جوع وعطش وضعف بدن.

الصبر ثلاثة أنواع: صبر على طاعة الله، وصبر عن محارم الله، وصبر على أقدار الله المؤلمة. وتجتمع الثلاثة كلها في الصوم. فإن فيه صبرا على طاعة الله، وصبرا عما حرم الله على الصائم من الشهوات والرغبات، وصبرا على ما يصادف الصائم من جوع وعطش وضعف بدن. ثبت في «الصحيحين» عن أبي هريرة، رضي الله عنه، عن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: «كل عمل ابن آدم له، الحسنة بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله عز وجل: إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به». وهكذا يكون استثناء الصوم من الأعمال المضاعفة، فتكون الأعمال كلها تتضاعف بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، إلا الصيام فإنه لا ينحصر تضعيفه في هذا العدد، بل يضاعفه الله تبارك وتعالى أضعافاً كثيرة بغير حصر، لأن الصيام من الصبر، وقد قال تعالى: (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب)، ولهذا ورد عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه سمى شهر رمضان شهر الصبر. وفي الترمذي عن أنس: (سُئل النبي، صلى الله عليه وسلم، أيّ الصدقة أفضل؟ قال: صدقة في رمضان). وإني إذ أنتهز هذه المناسبة الكريمة الجليلة لأقدم تهنئتي الصادقة للقراء الأعزاء، راجيا لي ولهم القبول والمغفرة والرحمة والعتق من النار. وفي هذا الجو الإيماني العابق بنسائم الخير والإيمان رأيت أن أخصص لقائي معكم خلال هذا الشهر الفضيل للحديث عن الركن الثالث من أركان الإسلام والذي يأتي بعد الصلاة مباشرة وقبل الصيام، ألا وهو الزكاة. ولقد شُغلت بهذا الركن الأوسط أيما انشغال، وجعلته عندي على رأس قائمة الأعمال. لقد كان موضوع الزكاة، وسيظل بعون الله، أحد اهتماماتي لسنوات خلت، تأملتها بالنظر والتجربة، وترسخ عندي يقين تام بأن الله سبحانه وتعالى فرضها لتكون الأداة الرئيسية والأساسية للنمو الاقتصادي والاجتماعي. وللأسف فإن الأمة الإسلامية عطلت هذا الدور، مرة بهجر أحكامها كليا ومرة أخرى بتطبيق بعض جزئياتها وفق مفهوم ضيق بحصرها في كونها حقا للفقير في مال الغني في صورة تصدق جزئي عابر، هذا المفهوم أجهض دور الزكاة وشل فاعليتها، وكانت النتيجة أننا أصبحنا أمة من المتسولين والبائسين، وأصبح الفقر مهنة وزادت واتسعت طبقة الفقراء والمساكين دون القدرة على الخروج من هذا الواقع الذي توارثه الأبناء والأحفاد. هذا المفهوم ينبغي تجاوزه حتى نؤسس للزكاة كياناً تطبيقياً معاصراً ينظر للفقر والمسكنة لا كحالات فردية يحجبنا المظهر عن إدراك حقيقتها، ولكن كظاهرةً تتطلب الاستقصاء العلمي والمعالجة الجماعية المدروسة وفق نظام مؤسس، وهو ما سأتعرض له في مقالات قادمة - بعون الله - منطلقاً من حقيقة أن الشارع الحكيم والمشرع العليم لو أراد حصر توزيع الزكاة على مصرفي الفقراء والمساكين وحدهما لما ذكر باقي المصارف الأخرى من الأساس. كما أنه، سبحانه وتعالى، إذا أراد تخيير عباده في الصرف على أي من المصارف الثمانية وإهمال الأخرى لكان أورد حرف التخيير «أو» قبل ذكر كل مصرف من المصارف، إلا أنه قال: «إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» (سورة التوبة أية 60). وهذه الآية الكريمة دليل واضح وصريح على ضرورة استيعابها جميع الأصناف المذكورة في الآية. كذلك فإن الشارع الحكيم لو أراد بالزكاة ِ أنها فقط حق للفقير من مال الغني، لوحد المقادير والأنصبة، ولما اختلفت بحسب نوع النشاط، ولفرضت على الأشخاص وليس على أنواع الثروة. ويَدُلُّ قول أبى بكر الصديق، رضي الله عنه: «والله لو منعوني عقال بعير كانوا يعطونه لرسول الله لقاتلتُهم من أجله» على أن المكلفين لم يكونوا يكتفون بإعطاء الزكاة لمن يعرفون من الفقراء والمساكين، وإلا لسهل عليهم الادعاء بأنهم قاموا بذلك، ولكن كانت الزكوات تعطى لأجهزة الدولة لتخطيط كيفية صرفها وإنفاقها. كلُّ هذه التأملات قادتني إلى طرح تساؤلات تقترب من العشرين. سأعرضها على حضراتكم بعد أن جمعت لها بتوفيق الله عدداً غير قليل من علمائنا الأفاضل وطرحتها عليهم عبر ندوات مختلفة ولقاءات متفرقة متسائلاً إذا كانت هذه التساؤلات مخالفة للشرع أو سبق طرحها؟ فأجمعوا، بفضل الله، أنها غير مخالفة ولم يسبق طرحها. فحمدت الله على ذلك، وها أنا ذا أطرحها عليكم بدوري، بعد أن وردت، كما أسلفتُ، على ذهني ولم أجد لها إجابات شافيةً محدودة، محبذاً مناقشتها وغيرها مما قد يخطر ببال الباحثين والعلماء. فالحكمةُ ضالةُ المؤمن.. وباب الاجتهاد مفتوح حتى قيام الساعة، تركه الله لنا للتبصر والتمعن والتدبر، ولم يكن في يوم من الأيام حكراً على فئةٍ أو جماعة، ولا سيما أن علماء العصور السالفة قد اجتهدوا وفق معطيات فكرهم وعصرهم، ونحن علينا بكل ما توفر لنا بفضل الله من فكر ومعطيات أن نكمل المشوار.. لأن الإسلام دين حياة وعمل، خاصةً في هذا العصر الذي يعد فيه الاقتصاد ركناً مهماً في حياة الأمة والفرد.. ولو طبقت عملية جمع الزكاة وتوزيعها تطبيقاً صحيحاً ووزعت على مصارفها الثمانية فإن هذا يؤدي، بعون الله، إلى الانتعاش في مواطن الإنتاج حين ينفق السهم في البلد الذي جمعت منه الزكاة، وإذا تبقى منه شيء بدون توزيع يحول إلى أقرب مكان من مواطن الإنتاج، وهي القرى الريفية في معظم الأحوال والمدن الصناعية، ومن شأن هذا الانتعاش أن يعيش الناس في تلك المناطق حياةً راغدة لا عوز فيها ولا فقر، وتتوفر فيها مستلزمات الحياة التي تمولها الزكاة من كهرباء ومياه عذبة ومدارس ووسائل اتصال، ومن ثم تنتفي الحاجة إلى الهجرة من الريف إلى الحضر طلباً للرزق. وبهذا تستقر الأحوال في الريف وعند المواطن بصفة عامة، وتبقى تلك المناطق شرايين نابضة بالخير. وتنتفي مشكلة التكدس السكاني في المدن الكبرى، تلك المشكلة التي تؤرق معظم حكومات العالم باعتبارها إحدى ظواهر المدينة الحديثة. إنها الزكاة النظام الاقتصادي الذي وضعه رب العباد لمصالح البلاد وصالح العباد، والذي لا يقدر ولا يجرؤ أي نظام اقتصادي وضعي أن يقترب من كماله وجماله.