آلية العرض والطلب

سادت الأوساط الاقتصادية في الفترة الأخيرة بعض المفاهيم الاقتصادية التي آلت إلى شعارات وبرامج تم الترويج لها باعتبارها العصا السحرية التي سوف تعالج الاختلالات الحاصلة في اقتصاد معظم الدول.

سادت الأوساط الاقتصادية في الفترة الأخيرة بعض المفاهيم الاقتصادية التي آلت إلى شعارات وبرامج تم الترويج لها باعتبارها العصا السحرية التي سوف تعالج الاختلالات الحاصلة في اقتصاد معظم الدول.

ومن هذه المفاهيم الدعوة إلى تحرير الاقتصاد وتخصيص القطاع العام والعمل بالأدوات المالية المشتقة وغيرها مما أصبح يشكل القاسم المشترك في الندوات والمؤتمرات والكتابات الاقتصادية وبرامج الإصلاح الاقتصادي، ولا اعتراض لدي على التفكير في الاستفادة من هذه المفاهيم، إلا أن محاولات الاستفادة منها يجب أن تستند إلى دراسة متعمقة ومتأنية للأوضاع الاقتصادية السائدة في دولنا.

كما يجب أن تستند إلى حاجات فعلية تكون تلك المفاهيم قادرة على تلبيتها، كذلك يجب أن نقبل على مثل هذه المستجدات الاقتصادية برزانة وتعقل دون حاجة إلى الهرولة وتلقف كل ما يأتي من غيرنا، وآمل ألا يؤدي الانهزام الحضاري والنفسي إلى اعتبار مثل هذه المفاهيم أمرا جديدا تماما على ممارستنا الاقتصادية وعلى أسسنا الفكرية الإسلامية الراسخة.

فعلى سبيل المثال فإن الدعوة إلى ريادة القطاع الخاص وتعظيم دوره واشتراكه في ملكية وإدارة المرافق والمشروعات الأساسية تعتبر متأخرة جدا قياسا إلى الشوط الكبير الذي قطعته المملكة العربية السعودية حكومة وقطاعات خاصة في هذا المجال، كذلك إن الاقتصاد الحر وما سيتبعه من برامج ورؤى يبشر بها الآن كحركة إصلاحية جديدة يعتبر كذلك مفهوما متواضعا قياسا إلى الممارسة الفعلية للتحرير الاقتصادي إبان العهد النبوي عندما وقف صلى الله عليه وسلم ورد على من طالبه بالتسعير قائلا «إن الله هو القابض الباسط المسعر الرازق وإني لأرجو أن ألقى الله وليس أحد يطالبني بمظلمة في دم أو مال».

فأقر آلية العرض والطلب في تحديد الأسعار وهذا هو جوهر اقتصاد السوق، كما أرسى من المبادئ والأسس ما يحمي هذه الحرية من الاحتكار والغش والتدليس والظلم، وكذلك أرسى قواعد حرية اختيار العمل وحماية العامل وضمان حصوله على حقه، وغير ذلك مما يؤكد سبق الاقتصاد الإسلامي في تبني اقتصاد السوق بشفافية، وتحت ظل مبادئ وقواعد تجنبها انحرافات النظام الرأسمالي، وبذلك يتبين أن هذه المبادئ التي يمثلها قول الرسول صلى الله عليه وسلم «دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض».

وعليه فإن الدعوة إلى تحرير الاقتصاد وإعطاء دور مهم للقطاع الخاص ليست جديدة فكريا، إذ سبق إليها تراثنا الاقتصادي الإسلامي، كما أنها ليست طارئة على الممارسات الاقتصادية في المملكة العربية السعودية التي تستمد مناهجها ووسائلها باحتكامها إلى تراثنا الإسلامي الخالد.

أهمية الدعوة إلى الخصخصة في المملكة العربية السعودية:

لقد بدأت معظم المشروعات في الدول النامية نشاطها في إطار القطاع الخاص ثم قامت الدولة بتأميمها، وبعد أن أخفقت في إدارتها ونتيجة لسيادة مفهوم الاقتصاد الحر وضغط المؤسسات الاقتصادية الدولية بدأت تفكر في إعادة بيعها للقطاع الخاص ومن هنا اكتسب هذا التحول أبعادا فكرية واقتصادية مهمة، وكذلك احتاج إلى دراسات ورؤى توضح أنجح السبل والسياسات لمثل هذا التحول، كما رافقته تخوفات من قطاع عريض من الأفراد العاملين حول مستقبلهم الوظيفي، ولقد أدت كل هذه العوامل إلى أن تحظى عملية التخصيص في الدول النامية بأهمية كبيرة وزخم واسع.

أما في المملكة العربية السعودية فالوضع مختلف جدا، فالحكومة لم تصادر ولم تؤمم المشروعات الخاصة لتحويلها إلى مرافق عامة، وإنما تصدت لأنشطة اقتصادية كبيرة ومشروعات استثمارية أساسية لم يكن القطاع الخاص بحجمه وخبرته وتجربته آنذاك قادرا على التصدي لها، ولم تكن نظرة الحكومة عند إنشائها لتلك المشروعات نظرة ربح مجرد أو محاولة للاستثمار بمصادر دخل دائمة، بل انحصر همها في إرساء الدعائم الأساسية للاقتصاد السعودي وتقديم خدمات لم يكن القطاع الخاص مؤهلا تماما لأدائها.

كذلك فإن الحكومة أنشأت المشروعات الاستثمارية الكبرى وأصدرت لها نُظماً خاصة في التوظيف والإدارة والمشتريات تختلف تماما عن الأنظمة الحكومية العادية، كما عملت على إدارتها إدارة اقتصادية رشيدة وفق أسس ومعايير القطاع الخاص في المقابلة بين النفقات والربحية، مما يبرز رأي البعض بأن تخصيص مثل هذه المشروعات قد لا يضيف لأدائها نمطية ومعايير جديدة، ويضمن لها نجاحات أكبر، ولكل ما سبق؛ فإني أذهب إلى القول إن التخصيص في المملكة العربية السعودية يجب ألا يلقى الزخم الواسع الذي لقيه في الدول الأخرى أو على أقل تقدير فإنه ليس شديد الإلحاح.

كذلك أرى أن ملكية الدول لبعض المشروعات الاقتصادية المهمة وإدارتها وفق معايير القطاع الخاص أمر لا ينتقص من مبدأ الحرية الاقتصادية، وأحب هنا أن أؤكد على نقطة مهمة لمستها من خلال العديد من المناقشات والكتابات، وهي أن البعض يعتبر أن الدولة لا حق لها في تملك المشروعات الاقتصادية وإدارتها، قد تكون هذه النظرة متأثرة بأداء القطاع الحكومي في بلدان أخرى، إلا أن الثابت أن الاقتصاد الإسلامي يقر بالملكية العامة وبملكية الدولة كلها إذا كان ذلك أولى في تحقيق المصالح العامة. ولقد استخدم في التراث الفقهي مصطلح (ملكية بيت المال) للتعبير عن (ملكية الدولة) وجاء فيه أن الأموال التي تتعلق بها هذه الملكية تكون لبيت المال كالأموال الخاصة في أيدي أصحابها، يجوز للإمام التصرف فيها وإدارتها بشرط تحقيق المصلحة العامة، ولقد أوصى سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه قبل خمسة عشر قرنا من الزمان كل جيل بحفظ الثروة للأجيال القادمة وعدم إهدارها، عندما قرر عدم تقسيم الأرض المفتوحة على المقاتلين، وقال قولته المشهورة (فكيف بمن يأتي من المسلمين فيجدون الأرض قد أقسمت وورثت عن الآباء! أرأيتم هذه الثغور لا بد من رجال يلزمونها! أرأيتم الأرامل واليتامى فمن يقوم بهم!)

إذن فملكية الدولة كانت قائمة، وأعتقد أن مشروعاتها – وفي حدود معينة ومع شرط إدارة أموالها وفقا لقواعد القطاع الخاص – تعتبر مخصصة من ناحية الإدارة، وهذا ما يهم في عمليات التخصيص.

فإذا سلمنا بأن الحرية الاقتصادية مبدأ أساسي وقاعدة مهمة للنشاط الاقتصادي في الإسلام، وأن المملكة العربية السعودية نشأ فيها القطاع العام استجابة لتحديات أساسية لم يكن القطاع الخاص قادرا على التصدي لها، كما أنه عند إدارة المشروعات العامة تم اتباع منهج القطاع الخاص في إدارة موارده، فلا بد من الإشارة إلى أن نفس هذا المنهج أدى فيما بعد إلى التشجيع التدريجي للقطاع الخاص حتى نما وأخذ دوره الطبيعي وتحمل أمانة قيادة عمليات النمو والتأقلم مع حالة التكييف الاقتصادي، وإيجاد مصادر دخل إلى جانب القطاع النفطي، ولقد شجعت الحكومة القطاع الخاص ودعمته بلا حدود، وتبنت منذ منتصف الثمانينات شعار (إعطاء دور أكبر للقطاع الخاص في إحداث النمو).

وفى العدد القادم بحول الله نتحدث عن واقع القطاع الخاص السعودي ومزايا التخصيص في المملكة.

• وقد ألقيت هذه المحاضرة في المؤتمر السنوي لاتحاد المصارف العربية – إسطنبول – تركيا من 12 إلى 14 مايو 1993م. وفقنا الله لما يحب ويرضى ... إنه ولي ذلك وهو على كل شيء قدير.