حرص الإسلام على إتقان العمل وتنويع النشاط

ناقشنا في المقال السابق محورين هما: أولا: المفهوم السلبي عن نظرة الإسلام إلى العمل، ثانيا: حث الإسلام على العمل. واليوم نتناول المحورين الثالث والرابع في هذا السياق.

ناقشنا في المقال السابق محورين هما: أولا: المفهوم السلبي عن نظرة الإسلام إلى العمل، ثانيا: حث الإسلام على العمل. واليوم نتناول المحورين الثالث والرابع في هذا السياق.

أما المحور الثالث فهو: أهمية إتقان العمل، ونؤكد هنا أن تعاليم الإسلام تقرن دائما أداء الأعمال بضرورة إحسانها وإتقانها وأدائها بإخلاص وتفان وصدق وأمانة، ويطلب ذلك في أجل الأعمال وفيما يظن أنه أحقرها، فاهتم الإسلام بكيفية الذبح حتى لا تتأذى الذبيحة بفعل جاهل بالمهنة. فقال الرسول (صلى الله عليه وسلم) «فإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة»

ولقد حكى القرآن في مواضع عدة أن التكليف بالأعمال منوط بالكفاءة والقدرة على الأداء بحسب متطلبات العمل، حتى ولو كان العاملون هم الأنبياء، ولقد زكت ابنة نبي الله شعيب سيدنا موسى لأبيها قائلة «إن خير من استأجرت القوي الأمين».

وعندما رشح سيدنا يوسف عليه السلام نفسه لولاية أمر المال والخزانة ذكر مؤهلاته لذلك قائلا «اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم». ويُجمع هذا الأمر في حديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) «إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه».

ويبين الحديث أن الإسلام لا يهتم بشكل الأداء ولكن بجوهره ومدى استفراغ الطاقة والجهد فيه، والرقابة على هذا المتطلب المهم ليست هي رقابة البشر الذي قد يغفل أو يستغفل وإنما هي رقابة إذا ظل الفرد بإيمانه يستشعرها فسيظل قائما على عمله بإتقان وإخلاص لا يفتر.

وبقدر ما يحرص الإسلام على العمل وإتقانه فإنه يوجه إلى ضرورة تنويعه وتغطيته لمختلف الأنشطة والمجالات، بل إن هذا التنويع اعتبره الفقهاء واجبا على الأمة كلها، فإذا فرضت في العناية بأي من القطاعات المكونة للنشاط الاقتصادي فإنها آثمة، وذلك اعتمادا على قاعدة فقهية إسلامية تقول «إن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب». ولأن عمارة الأرض وتحقيق الرفاه المادي من الواجبات التي لا تتم دون تضافر كل الأنشطة والقطاعات فإن العناية بها جميعا تعتبر واجبا إسلاميا.

وبذلك سبق الإسلام غيره من المدارس الغربية، فحينما كان الإسلام يشدد على تنمية كل القطاعات في القرن السادس الميلادي ركز التجاريون في القرن السادس عشر على التجارة، وركز الطبيعيون في القرن الثامن عشر على الزراعة باعتبارها العامل الوحيد لإنتاج الثروة، وأهمل آدم سميث مجال الخدمات مركزا على السلع المادية، وهناك كثير من الآيات والأحاديث والمرويات الإسلامية التي تدل على اهتمام الإسلام وتزكيته لمختلف الأنشطة الاقتصادية، ففي مجال الزراعة جاء في السنة:

«ما من مسلم يزرع زرعا أو يغرس غرسا فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة» وفي مجال التجارة سئل رسول الله (صلى الله وعليه وسلم) «أي الكسب أفضل قال» فقال: «عمل الرجل بيده وكل بيع مبرور». وقال «التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء». وفي العقار جاء في السنة «من باع دارا أو عقارا فلم يجعل ثمنها في مثله كان حقاً أن لا يبارك له فيه».

وفي مجال الصناعة منّ الله على رسوله داود بتعليمه صناعة الحديد وصهره وتنقيته بقول الله تعالى «ولقد آتينا داود منا فضلا يا جبال أوبي معه والطير وألنا له الحديد أن اعمل سابغات وقدر في السرد واعملوا صالحا إني بما تعملون بصير».

رابعا: اختيار المجالات المفيدة وتجنب الأعمال الضارة: أوردنا سابقا الكثير من النصوص التي تحث على العمل وتؤكد ضرورة إتقانه وتنويعه، ولكن أية أعمال تلك التي يحث عليها الإسلام؟

إن الإسلام يفرق أساسا بين الأنشطة المسموح بها والأنشطة المحظورة، وفي نطاق الأنشطة المسموح بها يعطي الأولوية والتشجيع للأنشطة التي تنتج قيمة مضافة للمجتمع. فإذا ما تأملنا الأنشطة المحظورة نجد أن العامل المشترك بينها أن السلع والخدمات التي تنتج عنها هي سلع وخدمات ضارة بالمجتمع والفرد. وضررها ثابت علميا بغض النظر عن هوى مستهلكي هذه السلع ومتلقي تلك الخدمات.

ومن الأنشطة التي تعتبر ضارة بالمجتمع والتي حرمها الإسلام الربا، وسوف نتعرض له لاحقا، والاحتكار الذي شنع عليه الإسلام بشدة. يقول (صلى الله عليه وسلم) «من احتكر حكرة يريد أن يغالي (يرفع السعر) بها على المسلمين فهو خاطئ، وقد برئت منه ذمة الله». فالاحتكار يحول دون التفاعل الطبيعي لقوى السوق ويؤدي إلى حصول أرباح مرتفعة لفئة قليلة من المحتكرين على حساب المجتمع. كذلك يمنع الإسلام المقامرة، وهي مصدر غير طبيعي للكسب تخسر فيه أسر كاملة دخلها بلا ذنب سوى نزوة عائلها، كما أن القمار نوع من تحويل الثروة دون جهد ودون قيمة يجنيها المجتمع من هذا النوع من النشاط. ويمنع الإسلام الرشوة والبغاء والخمر والمخدرات والمضاربات واستغلال النفوذ ونحوها بنصوص قاطعة.

وفي دائرة الحلال الإسلامي هناك الكثير من القواعد الفقهية الإسلامية التي تلزم ولي الأمر بأن يتحيز من خلال التشريعات والسياسيات نحو الأعمال والأنشطة الأكثر فائدة ذات القيمة المضافة بحسب الواقع والظروف السائدة.

ومن تلك القواعد قاعدة المصلحة المعتبرة وسلطة ولي الأمر في تقييد المباح وقاعدة تحمل الضرر الخاص لإزالة الضرر العام، وكذلك ترتيب المتطلبات إلى ضرورية وحاجية وتحسينية. وأود أن أشير إلى أداتين مهمتين تظهران انحياز الإسلام نحو الأعمال ذات القيمة المضافة وتحريمه للأنشطة الضارة وهما الزكاة ومنع الربا.

فالزكاة هي الركن الثالث من أركان الدين الإسلامي الخمسة، وتعتبر عمود البنيان الاقتصادي والاجتماعي في الإسلام، ولتقريب الفهم فقط، يمكن القول إنها تقابل بمفهوم أوسع وأشمل التشريعات الضريبية، ولسنا في معرض الحديث عن الزكاة كوسيلة وغايات، ولكن نريد أن نبرز جزئية يسيرة منها وهي انحيازها نحو الأنشطة المنتجة.

فالمتتبع لأحكام الزكاة يجد أنها تفرض عبئا مرتفعا بواقع 2.5% على المال في صورته السائلة، وهي أقل الصور تنموية، بل هي عاطلة عن أداء أي دور تنموي، وإذا ما تركت كذلك فإنها سوف تتآكل فيعتبر هذا العبء المرتفع محركا لها لكي تخرج عن دائرة الاكتناز النقدي وتدخل دائرة التشغيل والإنتاج، ثم يأتي -وفي نفس درجة العبء المرتفعة- النشاط التجاري بواقع 2.5% على الأصل والناتج وهو نشاط مطلوب ولكن من وجهة النظر التنموية يأتي بعد الزراعة 10% أو 5% من الإيراد الناشئ عنها. وأعفيت الأصول الثابتة المستخدمة في النشاط الصناعي وغيره بالكامل من الزكاة.

ويستنتج مما تم إيراده أن الزكاة تخفف عن الأنشطة التي تفيد المجتمع وتوفر خدمات وفرص عمل جديدة وتزداد على الأنشطة التي يقتصر نفعها على أصحابها دون أن تنتج وفورات للاقتصاد الوطني في مجموعه، ويتمثل قمة تقدير الإسلام للعمل في التنظيم المصرفي الإسلامي الذي ترفض مبادئه الخروج عن الوظيفة الأساسية للنقود باعتبارها وسيطا للتبادل ومعيارا لتقييم الأشياء ومن ذلك الخروج بالاتجار فيها واتخاذها سلعة تقوم بثمن يدعى سعر الفائدة. ويدعو بدلا من ذلك إلى خلط المال بالعمل. واشتراكها في ثمرة الجهد ربحا كان أم خسارة، وتأسس على ذلك تحريم الإسلام لإقراض المال بسعر الفائدة المحدد واعتبار مثل هذا النشاط مضرا بالاقتصاد، والدعوة إلى إقامة النظام المصرفي على أساس المشاركة بين مختلف أصحاب عوامل الإنتاج.

ولقد عدد الاقتصاديون السلبيات الموجودة في النظام المصرفي السائد، وحسبي هنا الإشارة العابرة إلى جزء منها للتدليل على رفض الإسلام للأعمال الضارة وهي:

(1) قيام اقتصاد مثقل بالديون تكون فيه الحكومات والمنظمون والمستهلكون مكبلين بالديون المترتبة على ذمتهم لصالح الممولين بما يقيد من حركتهم ويحدد مساراتهم ويولد مناخا مربكا لاستراتيجيات التنمية وللخطط الإنتاجية على مستوى الأفراد والحكومات، بينما نجد أن إحلال المشاركة في الربح يزيل الآثار السالبة لهذه المديونية ويحول علاقة الدائن بالمدين إلى نوع من الشركة ذات المصالح المتوافقة. (2) يؤدي إلى نوع من عدم الابتكار والتجديد، إذ إن المشروع الواقع تحت التزام رد رأس المال والفائدة لا يتحفز لارتياد المشروعات المهمة، والتي هي مصاحبة عادة بدرجة من عدم التيقن مما يحرم الاقتصاد من تطبيقات جديدة وأفكار مبتكرة. (3) زعزعة الاستقرار وإعادة توزيع الثروة بصورة غير عادلة، فرغم سلامة التخطيط والتنظيم والتنفيذ، قد يتعرض المنظمون لخسارات ناتجة عن عوامل محيطة ببيئة الاستثمار وهم مطالبون برد رأس المال وعائد مضمون وتتحول الثروة من المنظمين إلى الممولين رغم أن رأس المال النقدي فشل في إنتاج ثروة إضافية، وتؤدي هذه النتيجة غير العادلة إلى إفلاس المشروعات وزعزعة الاستقرار وإلى تشجيع أصحاب الثروات على التصرف كمقرضين أكثر مما يشجعهم على تعريض ثرواتهم لمخاطر التنظيم. (4) صغار المدخرين الذين يودعون في المصارف التقليدية بأسعار فائدة ثابتة ففي ظل حالة التضخم الجامع يحصلون على عائد سلبي إذا كان معدل الفائدة أدنى من نسبة التضخم بينما نتيجة المشاركة تكون إيجابية لارتباطها بالنشاط الحقيقي لا النقدي. وختاما لخاطرتي أقول: نعم إنه الإسلام الدين الخاتم.. والحمد لله رب العالمين.