الرأي

الأدب الشعبي مكون ثقافي موؤود!

أحمد الهلالي
دارسو الأدب العربي الحديث يجدون أنفسهم أمام حلقات مفقودة من ثقافتنا وتراثنا، فأول ما يصطدم به الدارسون ما سمي بـ(عصور الظلام/ أو الانحطاط) حين كان الأدب جسدا بلا روح، حتى بزوغ مدرسة الإحياء في مصر، فأعادت للأدب العربي روحه، وانطلق إلى آفاق شتى. في جزيرتنا العربية كانت الظلمة أشد، فكان المهتم بالأدب نادرا كالغراب الأعصم، حتى قامت الدولة السعودية بمراحلها الثلاث، فقبس السعوديون نهضتهم الأدبية من ضياء النهضة الأدبية في مصر والعراق والشام، وها هم اليوم يبارونها، لكن طبيعة الأدب العربي بعد عصور الظلام لا تزال قاصرة عن بلوغ شأو الأدب في القرون الأولى اجتماعيا، فقد اتخذت المجتمعات وسائطها الشعبية للتعبير عن ذاتها وعن وجودها، حتى ساد الأدب الشعبي بأنواعه، ولا تزال الآداب المعتمدة على الفصحى كليلة عن فك تعلق المجتمعات به. من الأخطاء التي لا تزال تلقي بظلالها على ثقافتنا بمجملها، أن غالب الغيورين على اللغة العربية نظروا للأدب الشعبي بدونية، فحيّدوه إلى درجة فصله عن تاريخ الآداب، فحين نطالع كتب الأدب السعودي على الأقل سنجدها ـ حسب علمي ـ شبه خالية من الإشارة إلى الأدب الشعبي بشعره وأساطيره وحكاياه وأمثاله، مع أنه الذاكرة الحية الحقيقية لمجتمعنا قبل النهضة، ومخزن ثري بالمعلومات المهمة عن حالة أسلافنا، وحقل عميق للدراسات اللغوية باختلاف اهتماماتها، والوقائع والتاريخ والعلوم الاجتماعية لتلك المرحلة. سمعت قصيدة للشاعر هلال بن مهدي الهلالي ـ يرحمه الله ـ لا أحفظ منها سوى كلمة (الجَلس) وهو يشبه شعره بالعسل، فكنت أفكر في معنى (الجَلْس)، سألت عمي، قال يعني (العسل)، ووجدت ذات الكلمة لدى الشاعر حنش الهلالي في قوله (والا الجَلس في عصر النحال) فبحثت في (لسان العرب) لأجد المعنى مطابقا تماما لما قاله وأراده الشاعران، فعجبت من احتفاظ ذاكرة الشاعرين بمرادفات أُهمِل استخدامُها، ولو تبحرنا في الإرث الشعبي الضخم لوجدنا الكثير من ذلك. ومن الأساطير المذهلة أن أهل قريتنا يسمون طائر الهدهد (قابر أمه في قفاته)، يقصدون إلى (القنزعة) الزائدة في مؤخرة رأسه، وفي دراستي لأساطير العرب حول (الغراب) ذهلتُ حين وجدت ذات التسمية عند عرب ما قبل الإسلام، وقد عزاها الدارسون إلى أن قنزعة الهدهد تفرز رائحة كرائحة (القبر)، فكيف استمرت هذه الأسطورة تعبر القرون والأجيال، وتحتفظ بها الذاكرة العربية إلى اليوم؟. هذه أمثلة عابرة، ولدى القراء والمهتمين أكثر منها، فلماذا نصنع حاجزا لا مبرر له بيننا وبين ذاكرتنا الشعبية، ولماذا نترك الجامعين المتحمسين وحدهم، وهم لا يملكون الأدوات العلمية للتدقيق والتصنيف والتوثيق والاستنتاج؟ ولماذا لا تتبنى الجامعات وكليات الآداب والأندية الأدبية الغوص في هذا الكنز باعتباره مكونا من مكوناتنا الثقافية المهمة؟ فقد أسس بعض الأدباء مثل عبدالله بن خميس لأهمية الشعر العامي وله دراسة حوله، وكذلك عبدالكريم الجهيمان في جمع الأساطير الشعبية، وغيرهم، وهذه الجهود تهدي للغوص عميقا في إرث الأسلاف واستخراج ما يستحق النظر. يتعب اليوم دارسو اللغة والنحو في الاهتداء لموضوعات دراساتهم وأبحاثهم الأكاديمية وقد ضاقت مجالات الدرس، ولو اتجهت بوصلة البحث نحو الأدب الشعبي لوجدوا سعة في الموضوعات، ولوقفوا على منابع ثرة، ومثلهم دارسو الأدب والتاريخ والاجتماع وغيرها من العلوم. مخطئ من يظن دراسات الأدب الشعبي ستؤثر على الأدب الفصيح، بل ستزيده ثراء، وتهدم الحواجز الوهمية بين الآداب، وستتسع مدارك النقاد والدارسين حين يجدون الروابط الحقيقية بين مبدعي اليوم وأسلافهم المهمشين، فالشعر السعودي الحديث زاخر بإشارات وتوظيفات من الأدب الشعبي يجهلها الكثيرون، فماذا سيقول نقاد الغد عن توظيفات سعد الحميدين، أو أسطورة (شرشاب) التي قال عنها بدر بن عبدالمحسن: (وين اختفى شرشاب؟ في الليل وأجساد الحطب)، وماذا لديهم عن (عن ابتلاع الحوتة للقمر) عند خسوفه؟! alhelali.a@makkahnp.com