التعليم الملتحي منذ عصر الكتاتيب

لماذا تبدو الفئة المتدينة هي الأكثر اتجاها لمهنة التعليم في مجتمعنا؟ السؤال ليس معقدا وليس بحاجة إلى خبراء اجتماع وتاريخ، فقد كان الفرد العادي في المجتمع يعرف ذلك بسهولة،

لماذا تبدو الفئة المتدينة هي الأكثر اتجاها لمهنة التعليم في مجتمعنا؟ السؤال ليس معقدا وليس بحاجة إلى خبراء اجتماع وتاريخ، فقد كان الفرد العادي في المجتمع يعرف ذلك بسهولة، بأدواته التحليلية الفطرية، قبل أن تتحول بعض البدهيات الأولية عن مجتمعنا مع العك التنظيري والتنميطات الصحفية إلى شيء غامض وخفي بحاجة إلى كشوفات. لقد كان الفرد من العوام لا يتخيل المطوع إلا في التعليم مباشرة، ويندهش عندما يراه في مجال آخر، بالرغم من وجودهم في كل مجال لكن الحديث عن النسبة الأعلى. لكن منذ عرف نفسه وهو يشاهد هذه الظاهرة المستمرة. النسبة العالية من المتدينين إلى التعليم، ويشاهدهم في الخطابة والمحاضرات والدعوة. لهذا يبدو غريبا الطرح المندهش من هذه الظاهرة، فالتعليم السعودي أصلا لم يحدث له حالة عصرنة شديدة، أو علمنة بأي مرحلة، ولم تعرف تجربتنا التعليمية ذلك الصراع الذي حدث في دول عديدة في العالم النامي بين نوعين من التعليم، فالسياسة التعليمية ظلت محافظة جدا مقارنة بمجالات أخرى، ولم توجد أصلا محاولات رسمية للتغيير نحو العصرنة والتنوير في محتواه، ومع ذلك في بعض المراحل بالرغم من محافظته وجدت مواقف عارضة من علماء حول إدخال بعض المقررات للتعليم أو الحقائق العلمية، كدوران الأرض عند مرحلة التحول الأولى، وهي تعبر عن سقف وعي مفهوم في ذلك الزمن. قصة تحديث التعليم في المملكة لا يتم تناولها في المراجع التقليدية إلا من خلال أرقام وعرض لتحولات إدارية وأسماء وزراء وليس تحليلا لمحتواه العلمي والثقافي واتجاهه الفكري. كان التعليم في المملكة قبل التأسيس وبدايات التأسيس بيد الشيخ ومطوع القرية والبلدة، والنخب الأولى من المشايخ وتلاميذهم تأسست على أيديهم بدايات التعليم الحديث، ونقل تعليمنا من مرحلة الكتاتيب إلى المدارس الحديثة. في نهاية الستينات والسبعينات بدأ المعلم السعودي يظهر في مستوى الثانوي أو الجامعي مع وجود المعلم العربي المتعاقد. وبدأ هذا المعلم السعودي القادم مع بدايات الطفرة النفطية يحدث له تغير في مظهره الخارجي بملامح جديدة ولباس أنيق مع الموضة مقارنة بمن قبله. تطورات الطفرة النفطية وفرص الثراء أخذت تسحب الكثير منهم إلى خارج التعليم في أعمال إدارية في وزارات أخرى، أو مشاريع خاصة أكثر إغراء.. وحدث عزوف مع كثرة الفرص وبقيت الفئة المحافظة أكثر في هذا المجال. ولأن الدولة في تلك المرحلة لديها طموح في التوسع جدا بالتعليم بمعلمين سعوديين، حدثت قفزة لمميزات المعلم ماليا مقارنة بزميله بالوظائف المدنية في مستوى الراتب والإجازات وغيرها، مما أسهم في المحافظة على البقية. بعد ذلك أصبح المجال التعليمي هو الأكثر جذبا في الوظائف الحكومية منذ ذلك القرار الجريء خلال مرحلة الثمانينات والتسعينات وأفول الكثير من فرص الثراء مع النكسة النفطية. مع ظهور المتدين الجديد في المجتمع وبدايات الصحوة بدأ الطالب الصغير يلحظ ملاحظة جديدة كسرت نمطا اعتاده، وهو أن المعلم الملتحي لمواد نظرية معروفة، لكن بدأ بمرور الزمن يشاهد الملتحي أخذ مكان المتعاقد العربي، كمدرس للفيزياء والرياضيات والكيمياء. الفئة المتدينة الحديثة لا يمكن أن تكون هي نفس عقلية مرحلة المطوع والكتاتيب، فأحدهم له رؤيته المختلفة وأدوات وعيه تغيرت كثيرا، فالمطوع والمتدين القديم بعفويته وبساطته انقرض تماما ولا يمكن إعادة إنتاجه. مع مميزات المعلم التي رافقت الطفرة لمنعه من هجر مجال التعليم، هناك عامل آخر وأهم أدى إلى تواجد المتدين أكثر في هذا المجال، ويعرفه أي مدرك لأبسط الحقائق الإسلامية والدينية.. شرف التعليم وقيمته الدينية، وفضيلة نشر العلم والدعوة إلى الله، فالنصوص من القرآن والسنة التي تحث على هذا العمل يحفظها الكثيرون، وهي أكثر وأشهر من أن يتم حصرها هنا. تقرأ في المساجد والخطب وتردد في المواعظ، فمهمة الدعوة ليست قضية حركية كما قد يتوهم البعض، فأولا يتغير توجه الشاب نحو المحافظة وتزداد لديه العاطفة الدينية ويبدأ بواجب «بلغوا عني ولو آية»، «قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة»، والتعليم أفضل المجالات لهذه المهمة، بالإضافة إلى هذا الدافع الإيماني والرسالي الكبير فإن الوظائف الأخرى قد يواجه فيها المتدين بيئات عملية تؤثر على نقائه الروحاني لهذا يختار المجال الأسهل والأفضل في نظره. داخل كل ظاهرة اجتماعية بارزة عدد من التفاصيل التي لا نهاية لها يمكن أخذ بعضها في مقالات أخرى. التعليم مجال عملي ضخم بضخامة البلد وسكانه، ويصعب اختزاله في مقولات نمطية تعيق حلول التطوير والتغيير الحقيقي فيه.