من التعليب إلى التعليم

لعل مهمة إصلاح التعليم في بلدنا هي أصعب المهمات على الإطلاق. ونرى جليا كيف أن المليارات المصبوبة في خزانة وزارة التعليم منذ سنوات عديدة لا تكاد تقدمنا خطوة في إصلاح جذري وحقيقي للتعليم إذا ما لجأنا إلى مقاييس معيارية وليس إلى تقارير صحفية. فأين تكمن مشكلة التعليم تحديداً؟ أو بعبارة أخرى، لو كنت وزيراً للتعليم فما هو الشيء الذي يمكن فعله لإصلاح التعليم؟

لعل مهمة إصلاح التعليم في بلدنا هي أصعب المهمات على الإطلاق. ونرى جليا كيف أن المليارات المصبوبة في خزانة وزارة التعليم منذ سنوات عديدة لا تكاد تقدمنا خطوة في إصلاح جذري وحقيقي للتعليم إذا ما لجأنا إلى مقاييس معيارية وليس إلى تقارير صحفية. فأين تكمن مشكلة التعليم تحديداً؟ أو بعبارة أخرى، لو كنت وزيراً للتعليم فما هو الشيء الذي يمكن فعله لإصلاح التعليم؟ البداية من الفلسفة، فلسفة التربية أو فلسفة التعليم من أهم فروع الفلسفة التي تحدث عنها الفلاسفة القدماء والمحدثون من شتى الخلفيات. والسبب الذي يدفعهم للحديث عنها يبدو جلياً ومبرراً، فالتعليم نقطة البداية للمستقبل. الأطفال في سنينهم الأولى يمرون بأهم مراحل حياتهم التي ستحدد أو ربما تحفر مساراتهم المستقبلية. فالفترات الحرجةCritical Periods في علم نفس النمو كما في علوم الإدراك تشير إلى تلك الفترة التي يكتسب فيها الطفل معارف عن العالم ولا يمكن اكتسابها في مراحل سابقة أو لاحقة بنفس الكفاءة. مثل تعلم المشي، واكتساب اللغة الأولى أو الثانية، وغيرهما. وطالما يقضي الطفل أغلب أوقاته خلال هذه المرحلة في المدارس التمهيدية أو الإعدادية فلا شك أن التعليم يلعب دوراً جوهرياً في وضع اللبنات الأساسية لعقول الأطفال وشخصياتهم. لا توجد لهؤلاء الأطفال فرصة أخرى خلال حياتهم لتشكيل هذه اللبنات الأساسية. ومن هنا فالحديث عن فلسفة التعليم أو التربية ليس ترفاً على الإطلاق. على الرغم من أن قدراً كبيراً من التراث في فلسفة التربية تحدث عن المحتوى الذي يجب تعليمه للأطفال وفي أي عمر أو على الطريقة المحددة، إلا أن هذا ليس كل الحكاية. فالزمن يختلف ومتطلبات الحياة تتجدد بسرعة غير مسبوقة كما أن الثقافات والمجتمعات تختلف هي الأخرى فيما تراه محتوى أساسياً. لم يعد سؤال المحتوى هو الأهم، بل السؤال الأهم هنا هو سؤال الكيف. ولكي نجيب عن سؤال كيف يجب أن يكون التعليم، فنحن بحاجة إلى الإجابة عن سؤال أهم منه؛ ما هي الغاية أو المخرجات المتوقعة من التعليم؟ فهناك من يرى أن التعليم يجب أن تقتصر مهمته على حقن الأفراد بالمعلومات أو المهارات اللازمة للعمل خلال باقي عمرهم. فالنظرة النهائية للمنتج التعليمي أشبه بعلب البيبسي المتشابهة في هيئتها، والتي لا تراعي الاختلافات الفردية بين الأفراد؛ فالكل يجب أن يتعلم لكي يعمل وينتج ويرفع «الناتج القومي» لبلده. وهناك من يرى بالمقابل أن التعليم يجب أن تكون غايته في إنسان ناضج ومستقل في تفكيره قادر على أن يجيب عن أسئلة المستقبل. التوجه الأول توجه متمحور حول السوق. فمخرجات التعليم يجب أن تكون مرهونة بما يريده السوق وبالتالي فالتخصصات في الجامعات يجب أن تستجيب وتوائم متطلبات سوق العمل مهما كان شكل هذا السوق. هذا التوجه في التعليم يستلزم تبني «المفهوم المصرفي» - كما يسميه باولو فريري- كأداة أساسية أو إطار عام يصوغ العلاقة بين المعلم والمتعلم، فحسب هذا المفهوم يُنظر للطالب كحساب بنكي فارغ يقوم المعلم بملئه. التعليم المصرفي مفهوم يجعل المُعلم مالكاً لـ»المعلومة الصحيحة» والطالب مجرد مستقبِل لـ»المعلومة الصحيحة». فوظيفة المعلم باختصار هي في حشو المعلومات الصحيحة في ذهن الطالب. وهذا التوجه بلاشك يستلزم وجود هياكل سلطوية ومؤسساتية تدرب الطالب على الخضوع لها بصفتها التي تملك المعلومة الصحيحة أو النظرة الصحيحة للعالم. أما التوجه الآخر فهو متمحور حول الإنسان. مخرجات هذا التوجه ليست مرهونة بالسوق ولا بالسلطة بل مرهونة بالفضول العميق الذي يقودنا نحو الاكتشاف. يسمي باولو فريري هذا التوجه بـ»المفهوم التبادلي». ففي هذا التوجه نجد أن العلاقة بين المعلم والطالب أفقية، فالمعلم يتعلم في نفس الوقت وكذا الطالب يُعلّم في نفس الوقت. فلا توجد هنا سلطة معرفية للمُعلم، بل إن الحوار المتبادل والمستمر بين الاثنين للوصول إلى «المعلومة الصحيحة» هو الأساس. ربما يبدو التوجه الآخر ملائماً لمدينة فاضلة وليس لنظام التعليم في السعودية. ولكن هذا الافتراض خاطئ تماماً وليس قائما على التجارب الحية التي سبقتنا بها بعض الدول. باولو فريري بنفسه أحد أهم منظري التعليم في العالم اليوم طبّق كثيراً من نظرياته في الأحياء الفقيرة والمهمشة في البرازيل وباقي الدول اللاتينية، وأسهم كذلك مع منظمات عالمية في تطبيق أفكاره وتحويلها إلى واقع. في تجربة أخرى نجد مشروعاً اسمه Hole in the wall (ثقب في الجدار) للبرفسور الهندي سوقاتا ماترا يقوم على فكرة الاستقلال الكامل للأطفال في اكتشاف العالم من حولهم بدون وجود مُعلم بالمعنى التقليدي. اكتشف سوقاتا أن الأطفال في الشارع لديهم قدرات فائقة في تعليم أنفسهم الكمبيوتر (واللغة الإنجليزية ومهارات الرياضيات والعلوم وغيرها) بدون أدنى مساعدة أو تلميح ومن تجربته العفوية التي بدأها في التسعينات طور أنموذجاً مشهوراً وكتب عنه في كتاب بنفس العنوان يستحق المطالعة. وختاماً قد يتخيل البعض أن مشكلة التعليم هي المشكلة الأهم التي يجب أن نواجهها ونسخر قدراتنا لها. ولكن الأمور ليست دوماً بهذه البساطة. ففي عصر الدولة الحديثة نجد أن التعليم جزء لا يتجزأ من المجتمع والدولة وأحمال الماضي والتي قد تحد من جدوى الإصلاحات الجذرية للتعليم. هذا ليس مدعاة للإحباط، بل إنه يعيدنا إلى صوغ أسئلة أكثر دقة، والبحث عن أجوبة أكثر عملية وملاءمة لواقعنا. على الأقل لنحدد ماذا نريد من التعليم قبل أن نفكر في كيفية إصلاحه. ولهذا فالبداية من الفلسفة والفلسفة فقط.