الموجة الثالثة

يبدو أن القومية العربية قد انتهت ولم يعد للحديث عنها مكان في مستقبل الأيام، ولا حتى عن تاريخها القريب في الوطن العربي الذي تغنى قادته بها منذ الستينات من القرن الماضي، وإلى ما قبل ثلاثين عاما، حيث حلت الأممية الدينية محلها، فكان لها من العالم العربي والإسلامي منظروها والمتغنون بأمجادها وتاريخها وماضيها الذي يستمدون منه قوة الدعوة لها والعودة إليها.

يبدو أن القومية العربية قد انتهت ولم يعد للحديث عنها مكان في مستقبل الأيام، ولا حتى عن تاريخها القريب في الوطن العربي الذي تغنى قادته بها منذ الستينات من القرن الماضي، وإلى ما قبل ثلاثين عاما، حيث حلت الأممية الدينية محلها، فكان لها من العالم العربي والإسلامي منظروها والمتغنون بأمجادها وتاريخها وماضيها الذي يستمدون منه قوة الدعوة لها والعودة إليها. وسار مع هؤلاء المنظرين بعض الزعماء الذين يبحثون عن اتجاه الجمهور ليكونوا أمامه، وإن لم يقتنعوا بتوجهاته وأيديولوجياته، كانت القومية العربية موجة عارمة لدى الشعوب وزعمائها، وبعدها جاءت الأممية الفكرية موجة شعبية أشمل وأكبر وأعم من سابقتها، لم يستطع الزعماء التخلي عنها وإن كانت تسير في غير الاتجاه الذي يحبون أن تسير فيه. سار المجتمع كله في ضبابية القومية العربية ردحا من الزمن، وسار مثلها في ركاب الأممية وانشغل منظروه وعلماؤه في استرجاع أمجاد الماضي الذي يتغنون به ويودون أن يعيدوه أو يعيدوا بعضا منه، وقضى العرب في هاتين الموجتين ستين عاما بين القومية والأممية... ثم ماذا؟ اليوم يبدو أن في الأفق موجة ثالثة ستكون خلال العقدين القادمين في العالم العربي، هي موجة التشرذم على مستويات عدة: فعلى مستوى الدولة ستكون النظرة القُطرية والاتجاه إلى الداخل هي ما تبدو علامات ظهورها والدعوة إليها والرضا بها واضحة في كثير من المؤشرات التي لم تعد خافية على المتابع للوضع العربي خاصة، والوضع الدولي بشكل عام، وظهرت دلائل إمكانية قبول هذا المعطى عند كل الأطراف، قوميها وأمميها، بعد أن تأكد الفشل حيث إن إفلاس التجربتين السابقتين شجع على البحث عن طريق ثالث ومحاولة تجربة جديدة. والذي يبدو أكثر وضوحا اليوم هو الميل المذهبي والتحيز الطائفي وحدة التصنيف بين أبناء الوطن الواحد، وتلمس الفوارق المذهبية والإقليمية، وتلك مقدمة نتيجتها الطبيعية التي لا بد منها هو حدوث مثل ما نراه يحدث فيما حولنا، حيث آلت الأمور إلى التناحر والحرب وتشتيت الوحدة وتفكك الدولة، هذه المأساة التي تعيشها دول الربيع العربي خاصة نذير شؤم قادم ما كانت لتحدث لولا ما شحنت به النفوس من الكراهية والبغضاء التي كانت الأنظمة السابقة تغذيها وتدفع بها إلى عمق المجتمع لتستفيد من التباين الذي تحدثه في بنية الوطن الجامع والمواطنة المتفق عليها. وليس ثمة طريق في رأيهم غير الانطواء في حضن الدولة القُطرية الضيقة التي بدأت تظهر دلائل وجودها والدعوة إليها في العراق والشام وفي اليمن وفي السودان وفي ليبيا حيث ضعفت قبضة السلطة المركزية وتفككت أجزاء الدولة واضطرب الأمن في هذا المحيط الكبير من مساحة العالم العربي، كانت الديمقراطية والعدالة الاجتماعية أمل الثائرين فأصبح الأمن وحده مطلبا عز وجوده عندهم. وإذا كانت دول الخليج ما زالت بخير ونرجو أن تكون كذلك بإذن الله، فإن العمل على بناء لحمة وطنية قوية متماسكة هو ما يجب أن تتعاون عليه حكومات الخليج وشعوبه وأن يفكر الجميع بالأمن والسلم الاجتماعي وتعزيز قيم المواطنة وحقوقها وواجباتها، وذلك هو ما يضمن مزيدا من الترابط والصمود في وجوه الأحداث.