الطائفية والانفتاح

يفترض أن تؤدي مظاهر الانفتاح مع ثورة الاتصال إلى حالة من التسامح الطائفي، ولكن ما حدث هو العكس حتى الآن، فقد ساهم في تعميق التوتر، وتتزايد حدته مع زيادة وسائل الانفتاح في السنوات الأخيرة.

يفترض أن تؤدي مظاهر الانفتاح مع ثورة الاتصال إلى حالة من التسامح الطائفي، ولكن ما حدث هو العكس حتى الآن، فقد ساهم في تعميق التوتر، وتتزايد حدته مع زيادة وسائل الانفتاح في السنوات الأخيرة. منذ بدايات الفضائيات المتواضعة ظهرت ملامح الأزمة، بعد سنوات انتقلت حالة الشحن والتشويه إلى مقاطع يوتيوبية قصيرة ومكثفة، وما تبثه من شحن طائفي مستمر، ثم انتقلت هذه المقاطع إلى مرحلة أخرى، حيث يتم تداولها في مجال جماهيري أكبر عبر مواقع التواصل والواتس اب. كان الجزء الأكبر من الإشكال الطائفي سياسيا ودينيا على مستوى النخبة، ووسائل التواصل هذه بدأت تنقله إلى مستوى اجتماعي وشعبي أوسع. لاحظت أن البعض يبدون حسرة على زمن قديم، لم يكن فيه هذا التوتر موجودا في الحياة الاجتماعية، ويتداولون قصصا من كبار السن، في أكثر من بيئة، والواقع أن هذه الذكريات الجميلة مشكلتها أنها تعبرعن تسامح لم يزود بوعي، وإنما هو سمة من سمات المراحل الريفية والحياة البسيطة في ذلك الزمن، فالتسامح يكون أقوى عندما ينشأ عن معرفة بالآخر واختلافه. يقول البعض إن سبب عدم التسامح أن كل طرف لم يكن يعرف الثاني بسبب التضليل والتشويه المتبادل، والواقع أن مشكلتنا الآن أنه لم يعد يمكن إخفاء حقيقة الآخر من خطابه، فالمشكلة حاليا ليست حول تشويه الآخر بحيث يمكن تصحيحها، وإنما هي تصريحات مقاطع حقيقية وليست مزيفة أو مؤلفة، تعبر عن الواقع. ليست الصورة قاتمة دائما في هذه الفضاءات، فعندما تثار العديد من المواقف الطائفية الحادة فإنها أيضا تواجه بردود فعل إيجابية لديها حس المسؤولية بعفوية، ودون تنظيم كما تمارسه الاتجاهات المحسوبة على الأنظمة والأحزاب. وهذا بمرور السنوات ربما يخلق وعيا وتسامحا أفضل من تلك الصورة التي يتباكى عليها البعض الآن، ولا تستطيع أن تعبث بها السياسة والأحزاب. تبدو الطائفية الآن في أسوأ مراحلها التاريخية عربيا، فكل ما أصلحته الثقافة بجهودها المحدودة في أعوام، أفسدته السياسة في مواقف وأيام، لم يعد ممكنا إخفاء كثير من عيوب الوعي السياسي والاجتماعي والديني مع حالة الانفتاح الكبير الذي فرضته تقنية الاتصال منذ بدايات العقد الماضي، وتزييف إعلام الأنظمة. كشفت الحالتان؛ العراقية والسورية، محصلة القرن الماضي سياسيا، وعقودا من التزييف في مواجهة الواقع. لم تنجح الدولة والخطاب العلماني المفترض وجوده خلال نصف قرن مضى فيهما، من تحسين الوعي الجمعي لاستقرار الدول الوطنية بعد رحيل الاستعمار، مع أن حركات التحرر لمواجهة المستعمر كانت بعيدة عن الطائفية، إلا أن الأنظمة التي نشأت بعدها استغلت المشكل الطائفي لتثبيت سلطتها، مع تقديم خطابات وشعارات رنانة عن الوحدة والتعايش ومحاربة الطائفية. لم ينجح المثقف العلماني العربي في هذه المنطقة بتنوعها الطائفي، خلال تجربة نصف قرن وخطاب ثقافي تقدمي، من معالجة بذور هذه الإشكالية الحضارية التي تجهض بناء الدول، قد يفوق هذا إمكانياته وقدراته مقارنة بالسياسي، لكن المثقف كان يملك أن يقول بعض الحقيقة، ويزود الوعي العام بتفاصيل المشكلة واحتمالية انفجارها في أي لحظة. نشعر الآن بعدم وجود عمق فكري حديث وأصيل بأدواته وصراحته لمواجهة أي انفجار طائفي. تعمد المثقف العربي في تلك المرحلة إلغاءها من خطابه وكأنها ليست موجودة، إلا في حالات التنديد العابر، والتعالي عليها وكأنه منزه من لوثة الطائفية، وهو يظن أنه بذلك يساعد على القضاء عليها. لكن الثورة السورية كشفت المثقف قبل أن تكشف المجتمع والفرد العادي. تبدو الحالة السورية نموذجا لنتيجة تأجيل مواجهة المشكلات، وتصحيح الأخطاء التاريخية منذ سيطرة أقلية على السلطة التي تتصرف طائفيا وتتكلم بعكس ذلك. لا نعاني من ندرة النصائح والمواعظ التي تحذر من الخطابات الطائفية والشحن الطائفي، ما نحتاجه هو تعميق رؤيتنا للقضية ومتغيراتها، فالحديث عنها يغلب عليه التداخل بين مستويات عدة، وعدم القدرة على التمييز بينها، فهناك اختلاف بين الأماكن والدول في درجتها وطبيعتها، والسلوك السياسي يختلف عن الخطاب الديني، والخطاب الديني يتأثر كثيرا بالمواقف السياسية، وبالتالي يتأثر المجال الاجتماعي الأكثر مرونة. من أهم أسباب عدم التقدم في مواجهة الطائفية أن الاتجاه المعتدل في كل طرف ليس صريحا في طرح الأسئلة الحقيقية، لأنه يظن ذلك حلا للمشكلة وتخفيفا منها، وبالمقابل يبدو الاتجاه المتطرف أكثر صراحة في تداولها، لكنه لا يريد حلها إلا بالقضاء على الآخر.