الرأي

فكرنا الاقتصادي المبعثر!

عبدالعزيز الخضر
بعد أي قرارات اقتصادية تأخذ ردود الفعل داخل المجتمع والقطاع العام والخاص عدة مراحل. المرحلة الأولى: انفعالية تتسم غالبا بالنقد أو الإشادة، وينتهي مفعولها سريعا دون أن تعبر بدقة عن حقيقة التأثير الذي حصل أو سيحصل فعلا. ويغلب عليها الكلام الشعبي في الاقتصاد الذي لا تجد فيه اختلافا عميقا بين كلام المجالس والسواليف التجارية وبين ما يطرح في إعلامنا، حيث يغيب التنظير الاقتصادي الذي له جذور عميقة في الوعي بالاقتصاد ونظرياته ومدارسه وتحولاته في القرن الماضي والعقود الأخيرة، وإلى أي مدى تم تطبيقه على اقتصادنا وكيف يمكن وصفه مقارنة بعدة أنظمة اقتصادية في العالم، وحتى الريعية التي يكررها البعض مؤخرا بإسراف كموضة سخرية أحيانا، أو مجرد وصف مريح لتبرير مجمل الخلل الهيكلي، وهي ليست وصفا كافيا، فلكل دولة ونظام اقتصادي وتجاري نوع مختلف من الريعية ودرجتها في تأثيره على التجاري، وطريقة إدارتها. المرحلة الثانية: من المفترض أن تأتي بعد زمن طويل نسبيا خلال عدة سنوات، لنتعرف خلالها على ما حدث فعلا من خلال رؤية تاريخية نقدية واعية بحالة الاقتصاد الحقيقية والعوامل المحركة له خارج حكاية النفط، فتح النفط تفاصيل متنوعة شكلت منهجا للحالة للسعودية منذ السبعينات، وليس بصف الجداول عن الميزانيات والصادرات والواردات من المؤسسات المالية والصحف. فالواقع أنه في كل منعطف اقتصادي يفترض أن يدون لمرحلة محلية، لم تسجل بدقة التأثيرات التي حدثت: على طبيعة سوق العمل، وتغير الأسعار، وتغير الثقافة الاجتماعية، وبروز مهن واهتمامات على حساب أخرى، وغياب شروحات مفصلة لكيفية تجاوب الحركة الاقتصادية في الداخل مع هذا القرار أو ذاك تاريخيا. لا نملك رصيدا من الكتابات المنهجية سوى خبرات مبعثرة من كبار السن من عهد الملك سعود قبل الطفرة النفطية وما بعدها، وسرد قصص التجار وحكاياتهم عن ما قبل وما بعد النفط من الذين مروا بعدة مراحل حيث مروا بأكثر من طفرة وعجز، وحتى هذه الحكايات من خلال مراجعة ومتابعة كثير من قصص رجال الأعمال والمال وجدت الكثير منها قصصا تتسم بالبساطة والتقليدية وغياب الحس المعرفي، ويغلب عليها الجانب الفردي والاجتماعي لقصة تاجر عصامي، لإيصال رسالة: «خلوكم مثله..» لمخاطبة الجيل الجديد، مع أن كثيرا منهم يقدم طرفا من قصة النجاح ويخفي حكاية القفزة الحقيقية التي جعلته إمبراطوريا ماليا. منذ أكثر من عقد تجد الكثير من الكتابات والمقالات والتقارير المطولة المزدحمة بالرسومات والجداول والأرقام مع تطور برامج الكمبيوتر بالألوان، لكنها لم تستطع كشف وتشخيص حالتنا؛ لأن الجداول الحقيقية المطلوبة غائبة وتحتاج جهدا فرديا وتدوينا خاصا، وليس مجرد جداول تحصل عليها بسهولة من عدة مراجع رسمية. صف الجداول ظاهرة توحي للقارئ العادي بأن هناك جهدا ضخما ورصدا، لكن عندما تقرأ التفاصيل لا تجد أي حس اقتصادي منظم، وإنما مجرد حكي تاجر مبتدئ يعرف كيف يصف مقالة صحفية، وليست نقدا اقتصاديا يبني فكرا محليا، وهذا ما تجده في الكتابات عن الأسهم والعقار ومشكلات الإسكان والبطالة.. إلخ في الملاحق الاقتصادية. في حالات كثيرة الأرقام لا تتكلم ويمكن أن تكون مضللة إذا فقدت أحد الجوانب في معرفة الواقع حينها، وهناك عدة أمثلة يضربها الاقتصاديون حول مشكلة تضليل الأرقام، فلكل ارتفاع ونزول وتضخم وركود أسباب غير متطابقة في كل مرحلة. تخلط كثير من الكتابات بين السياسة اقتصادية التي تتناقض أحيانا مع النظرية التي يتبناها ويفترض أنها إطار عام لكل تحول في مرحلة ما.. وقد يقترح بعضهم سياسات اقتصادية لتصحيح خلل ما حول مستوى المعيشة للمواطن.. تنتمي لعصر ما قبل الحداثة، بحجة دعم ذوي الدخل المحدود، ولا يعلم أن حكاية الدخل المحدود هذه إحدى أدوات دغدغة الجمهور، بالتصريحات، والمقالات الشعبوية، خاصة عندما نواجه إشكالية أكبر من هذه الفئة.. حول الطبقة الوسطى التي تتآكل وقد تتحول هي الأخرى إلى ذوي الدخل المحدود. كثير من الحوارات الاقتصادية تعاني من شح الوعي بالفلسفة الاقتصادية المعاصرة وكيفية تطبيقها في كل نظام، ولماذا نجحت هنا وفشلت هناك، ولهذا تجد بعضهم يقدم مقارنات ساذجة حول تجارب دول مختلفة في أنظمتها، دون تحديد دقيق لطبيعة النظام الاقتصادي المراد تصحيحه، ودون تراكم نقدي حتى لأشياء قريبة زمنيا لدينا، فتجربتنا في الخصخصة ليست جديدة، وإنما تجربة مررنا بها في التسعينات ثم تعثرنا في جوانب وأجلنا ونجحنا في جوانب أخرى، وتحت ضغط الحاجة لتخفيف الضغط على القطاع العام، يعود التفكير بخصخصة ما يصعب خصخصته الآن.. قبل تعديل أشياء كثيرة في هيكل الاقتصاد بكامله، وما نحتاجه هو نقاشات أعمق بالفكر الاقتصادي، وألا تحاصرنا عقلية التاجر التقليدي.. وعقلية المستهلك.. وبينهما صحافة عناوين! alkhedr.a@makkahnp.com