المعرفة التاريخية

يتوفر المؤرخ والروائي في عصرنا على مقولات وأدوات من شأن إعمالها فتح جبهات ومراصد جديدة في حقل المعرفة التاريخية، وهي على سبيل المثال لا الحصر: قضايا وحالات التاريخ المجتمعي والنفسي (التصورات والتخيلات والمشاعر الجماعية في هذه الحقبة أو تلك حول أمور الحياة والموت والمعاد)، الأوبئة والمجاعات والطواعين

يتوفر المؤرخ والروائي في عصرنا على مقولات وأدوات من شأن إعمالها فتح جبهات ومراصد جديدة في حقل المعرفة التاريخية، وهي على سبيل المثال لا الحصر: قضايا وحالات التاريخ المجتمعي والنفسي (التصورات والتخيلات والمشاعر الجماعية في هذه الحقبة أو تلك حول أمور الحياة والموت والمعاد)، الأوبئة والمجاعات والطواعين، الحروب وحركات العصيان والتمردات الفاشلة أو المسحوقة، وغير ذلك مما يجعلنا أمام المجتمع وعمرانه بالمعنى الخلدوني وما بعد الخلدوني. وفي كل هذه القضايا وما قارنها كثير يجد الروائي مجاله الحيوي وحقله الثري، لا سيما أن الشهادة أو الوثيقة التاريخية، كيفما تعدد حضورها وتجلت فعاليتها، لا يتسنى لها موضوعيا أن تغطي مجالات الروح واللاشعور أو الحياة الباطنية بوجه عام، ولا أن تطال أيام وأعمال أصناف مجتمعية بكاملها، فضلا عن الأدبيات الشفوية والمرويات اللامكتوبة. فهناك إذن مغارات وهوامش كثيرة لا اهتمام أو لا طاقة للمؤرخين بها. وبالتالي فإنها عند فاعلي الرواية التاريخية أو رواية التاريخ المتخيل تقوم مقام زادهم الأثير ومرتعهم الخصب المتجدد. لعل أول من مارس التخييل التاريخي بشكل مقصود وخارج المرجعية الملحمية كما أنجزها هوميروس (ق9 ق.م.) هو هيرودوت الإيوني (أب التاريخ المتوفى في 420 ق.م.)، وذلك في كتابه تواريخ حول الحروب الميدية بين اليونانيين والفرس. وقد لقب هذا المؤرخ بـ»الكذاب» لأنه في حكاياته عن بلدان جال فيها، كفارس ومصر، كان من حين لآخر يلجأ إلى الاختلاق، إما للتغلب على تعذر الخبر أو عجزه عنه، وإما قصد تشويق سامعيه وتزيين مروياته. ويبقى أن نص هيرودوت، بالرغم من نقائصه في باب الدقة المعرفية، هو من الروائع الأدبية والمحاولات الجميلة في مجال تقريب الشقة بين الحدث والخيال أو الواقع والممكن... أما في تراثنا العربي-الإسلامي، فالأمثلة متعددة في القصص والسير والرحلات وألف ليلة وليلة وكتاب الأغاني لأبي فرج الإصفهاني، وغير ذلك كثير.  

binsalm.h@makkahnp.com