السخرية

على مدار حلقات سابقة تناولت خلالها أربعة من السلوكيات السلبية، بدءًا من النميمة ومروراً بالغيبة والبهتان ووصولاً لشهادة الزور.

على مدار حلقات سابقة تناولت خلالها أربعة من السلوكيات السلبية، بدءًا من النميمة ومروراً بالغيبة والبهتان ووصولاً لشهادة الزور.

وإني لأشعر أن القائمة ما زالت طويلة.. وسأبذل بحول الله جهدي في ملاحقتها، تحذيراً منها وعملاً على تلافيها بقدر الإمكان.. حتى تعود إلى مجتمعاتنا خلالُ وخصالُ التقوى والعمل الصالح التي أمرنا الله بها في كتابه العزيز، وحببنا فيها رسولهُ الأمين، صلى الله عليه وسلم، عملاً وقولاً في سنته المطهرة، لنكون كما أرادنا الله خير أمةٍ أخرجت للناس.

وقبل أن أبدأ اليوم بعون الله الحديث عن سلبيةٍ سلوكية جديدة في هذه السلسلة، وبمناسبة ما قيل عن (الكورونا)، حمانا الله منها وأزال بفضله أذاها عنَّا، وحفظ أوطاننا من كل مكروه.. وفي الوقت التي تبذل فيها السلطاتُ، أعانها الله ووفقها في مكافحتها، فإن علينا نحن كأفراد أن نساعد ونعين بالرغم من أن لدينا عادةً محببةً ومحمودةً، وهي أن تحيي وترحب بأخيك باحتضانه - وعندنا يقولون (السلام عليه عُرْبَه) - يعني بوسه - ولكن وبحكم الأجواء التي بها - ميكروب- فإن علينا أن نتخلى عن الأحضان من أجل مزيدٍ من الأمان، وننسى (العُرْبَه) اليوم، والقادم إن شاء الله أحلى، بدلاً من أن تعرض نفسك أو من تقبلُه من محبةٍ لخطرٍ وكربةٍ، فالنبي صلى الله عليه وسلم أوصانا بالوقاية.

ومثلنا الصحي الدارج يقول “درهم وقاية ولا قنطار علاج”.

ودعوني أبدأ معكم حديثي عن السلوكيات الخاطئة أو السلبية.. وسأتناول اليوم سلوكاً سيئاً يمارسُ أحياناً بحسن نية وبدون قصد، وأحياناً يمارس عن قصدٍ وعمد.. إنه “السخرية والاستهزاء”.

كان ابن مسعود رضي الله عنه يجتني سواكاً من الأراك، وكان دقيق الساقين، فجعلت الريح تكفؤه، فضحك القوم منه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مم تضحكون؟

قالوا: يا نبي الله، من دقةِ ساقيه. فقال صلى الله عليه وسلم: “ والذي نفسي بيده، لهما أثقلُ في الميزان من أحد”. وقال صلى الله عليه وسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: “بحسب امرئٍ من الشر أن يُحَقرَّ أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام دمه، وماله، وعرضه”.

يعني يكفي المؤمن من الشر أن يحقر أخاه المسلم، وهذا تحريم لاحتقار المسلم، وأنه شرُ عظيم، ولو لم يأت الإنسان من الشر إلا هذا لكان كافياً.

فلا تحقرن أخاك المسلم، لا في خُلقه، ولا في ثيابه، ولا في كلامه، ولا في خَلقه، ولا في غير ذلك، أخوك المسلم حقه عليك عظيم.

* وقال أحد العلماء: إني لأرى الشيء أكرهه فما يمنعني أن أتكلم فيه إلا مخافة أن اُبتلى بمثله.. لا تحقرن غيرك عسى أن يكون عند الله خيراً منك، وإلى الله منك أقرب. * كل من افتخر على إخوانه واحتقر أحداً من أقرانه، أو سخر أو استهزأ بأحد من المؤمنين، فقد باء بالإثم والوزر المبين. وقال إبراهيم خفاجى شاعر الوطن في واحدةٍ من أغانيه العذاب ( لا تلومي المبتلى كلَّ من عايب بلى)

حكم الاستهزاء:

وإذا كنا جميعنا نعرف أن حكم الاستهزاء بالله وآياته ورسوله كفر يخرج من الملة والدين، لأن أصل الدين مبني على تعظيم الله وتعظيم دينه ورسله، والاستهزاء بشيء من ذلك منافِ لهذا الأصل.

“وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لاَ تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ” التّوبـَـة: 65-66.

فإن السخرية من الناس تتنافى مع ما يوجبه الحق، وهي ظلم صارخ من الإنسان لأخيه الإنسان، واعتداء على مشاعره وإيذاءُ للنفس والقلب.

وقد تكون السخرية بتقليد في الفعل والقول على سبيل الاستحقار والاستهانة ونبش العيوب وكشف النقائص..

وقد تكون بالضحك على كلام أخيه إذا تخبط فيه، أو على مهنته أو قبح في هيئته.

وقد نهى الله تبارك وتعالى عن الهمز واللمز، محذراً ومتوعداً الهماز واللماز بالوبال وشدة العذاب.

“وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَة(1) الَّذِي جَمَعَ مَالا وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) “ (الهمزة الآية 1-4 ).

والهماز: الذي يعيُب الناس ويطعن عليهم بالإشارة والفعل.

واللماز: الذي يعيبهم بقوله.

ومن صفة الهماز اللماز أنه لا هم له سوى جمع المال وتعديده والغبطة به، وليس له رغبةٌ في إنفاقه في طرق الخير وصلة الأرحام ونحو ذلك.

ولقد سجل القرآن الكريم عاقبة الساخرين والمستهزئين بالمؤمنين، وأخبر بانعكاس الوضعية يوم القيامة، بحيث يُصبحُ الساخرون موضع سخرية واستهزاء من طرف عباده المستضعفين في هذه الدنيا.

قال تعالى: “إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ(29)وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ(30)وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ انقَلَبُوا فَكِهِينَ(31)وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ(32)وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ(33) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ(34)” . (المطففين 29-34 ). وقوله تعالى” أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ “ (الزمر الآية 56 ).

وقوله تعالى “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ” (الحجرات الآية 11 ).

وهذا يفيد أن الله عمَّ بنهيه المؤمنين عن أن يسخر بعضهم من بعض جميع معاني السخرية، فلا يحل لمؤمن أن يسخر من مؤمن لفقره ولا لشكله ولا لعمله، ذلك أن السخرية بكل أشكالها تُعمل على قطع الصلات الاجتماعية المبنية في الأصل على الأخوة والتراحم والود، وتثير العداوة وتورث الحقد والضغينة، وتبعث على الرغبة في الرد والانتقام، علاوةً على ما يُعرضُ المستهزئُ نفسه له من غضب المولى وعذابه.

والسخرية دائماً ما تفقد صاحبها الوقار وتسقط عنه المروءة، وتميت قلبه وتساعد على بُعد الناس عنه خوفاً من سخريته وحفاظاً على سلامتهم منه. وللسخرية والاستهزاء أسبابُ عدةُ ودوافع كثيرة،

منها:

  • * الِكْبرُ الذي يلازمه غمط الناس.
  • * الرغبةُ في تحطيم مكانة الآخرين.
  • * التسلية والضحك على حساب آلام الآخرين ومشاعرهم.
  • * الفراغ والرغبة الرعناء لإضحاك الآخرين.

الفرق بين الاستهزاء والمزح:

وهناك بالطبع فارق جوهري بين إضحاك الناس بغرض الترفيه عنهم دون اعتماد السخرية منهم أو الاستهزاء بهم، وهو أمر يجدد روح المرح في مجالس الحكام والعامة، ذلك أن المزَّاح لا يقتضي تحقير من يمازحه ولا اعتقاد ذلك.

ولا أدري كيف يأمن الساخرون المستهزئون ردة فعل من يسخرون ويستهزئون بهم.. وقد يكون الرد حقاً مكفولاً لهم لقوله تعالى: “وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرِينَ” (النحل الآية 126).

وفي حلقات قادمة بحول الله سنلقي مزيداً من الضوء على مثل هذه السلوكيات المذمومة.. سائلين الله جلت قدرته أن يساعد عباده المؤمنين في التخلص منها طلباً للعفو والثواب، لأن ديننا هو دينُ القيم ومكارم الأخلاق.

saleh@makkahnp.com