المذاهب الأربعة اختلافات فرعية أم جوهرية؟

أكثر ما يميز المرحلة الحالية من تاريخ الدولة السعودية الثالثة هو الحراك المجتمعي المتنامي على جميع الأصعدة بشكل غير مسبوق في كل المراحل السابقة من عمر توحيد هذا الكيان على يد المغفور له بإذن الله الملك عبدالعزيز طيب الله ثراه،

أكثر ما يميز المرحلة الحالية من تاريخ الدولة السعودية الثالثة هو الحراك المجتمعي المتنامي على جميع الأصعدة بشكل غير مسبوق في كل المراحل السابقة من عمر توحيد هذا الكيان على يد المغفور له بإذن الله الملك عبدالعزيز طيب الله ثراه، فمن أصوات مطالبة بتفعيل دور مؤسسات المجتمع المدني بصورة أوسع نطاقا مما هو متاح في الفترة الراهنة إلى أصوات مطالبة بمزيد من حرية التعبير حتى في مسائل الاختلاف بين المذاهب الأربعة وهذا هو جوهر ما سأتحدث عنه في هذا المقال. فالمسألة في نظر الكثير من مثقفي الجيل الحالي ليست مجرد رغبة في الاطلاع من أجل الاستزادة في العلوم الشرعية بل تعدت كونها مسائل اختلافات فرعية إلى مسائل اختلافات جوهرية بالنسبة للكثير منهم لأنها أصبحت تشكل تناقضا صارخا في حياتهم اليومية، لأن الاعتراف بوجود المذاهب الأربعة لم يلغ التعصب الذي يمارسه أتباع كل مذهب على طريقته الخاصة وإن لم يكن هذا التعصب يرتقي إلى مرتبة التعصب بين بعض المذاهب العقدية، وفي هذا مفارقة لا أجد لها أي مبرر، حينما يتحول الحديث عن الاختلافات المذهبية بشيء من المخادعة اللفظية لبعض الأتباع وكأن تلك الاختلافات لا ترتقي لمرتبة الخلاف فيما بينهم رغم الترهيب اللفظي - غير المباشر - الذي يمارسه البعض منهم تحت تأثير آرائه الشخصية. وهذه الاختلافات المذهبية لا تمس بأي حال من الأحوال العقيدة الإسلامية النقية التي اجتمعت على صحتها المذاهب السنية الأربعة، لأنها لا تعدو كونها اختلافات فرعية، حتى لو توهم البعض بأن لها تأثيرا غير مباشر على سلامة العقيدة عبر تدنيسها بالشبه المريبة بسبب مسائل الاختلاف من خلال محاولة بعض النخب الدينية إقصاء المذاهب الأخرى المخالفة بطريقة لا تمت لسماحة الدين الإسلامي بصلة، إلا أن أوجه الاختلاف في بعض الأحيان قد تصل إلى مفترق الطرق، وعندها يجد الأتباع أنفسهم في مسارات متباعدة تعزز من احتمالية عدم الالتقاء مجددا. ما دفعني للكتابة عن هذه القضية الشائكة هو تمسك كل أتباع مذهب بكل الآراء الفقهية التي تأسست عليها تلك المذاهب الأربعة، وكأن الهدف الرئيسي الذي يحرص الأتباع عليه أشد الحرص، هو المحافظة على الإرث الفقهي الذي تركه المؤسسون خشيةً من انتصار مذهب على مذهب آخر! ولو قسنا الأمر على مدى تعايش هذه المذاهب فيما بينها في مجتمع ما من حيث تقبل كل طرف ما يحمله الطرف الآخر من آراء فقهية مخالفة لآراء مذهبه، لوجدنا أنفسنا أمام مأزق يحتم علينا الإعلان بوضوح سواء عن رفضنا أو تقبلنا للطرف الآخر المخالف لنا وذلك بسبب البيئة التي نشأنا فيها حيث لا مكان للاختلاف حتى وإن ادعينا خلاف ذلك. وهذا يقودنا لنتساءل هل هناك ثمة تعايش بين أتباع المذاهب الأربعة يمكن القياس عليه في أي مجتمع إسلامي ماضي أو معاصر؟ حقيقة أن البحث في التاريخ الإسلامي عن مثل هذه الإشكاليات الجدلية المعقدة قد يثير كثيرا من الجدل حول الانتقاء الذي مارسه بعض كبار الأتباع للآراء الفقهية رغبة منهم في جعلها ذات تأثير عميق في اللاوعي الجماعي لأتباع هذا المذهب أو ذاك حتى يسهل حشدها وتأليبها على أي رأي مخالف يخرج من صلب مجتمعاتها. بداية لابد من الإشارة إلى أن من أهم أسباب نشأة المذاهب الأربعة هو اختلاف وتنوع البيئات التي انتشر فيها الإسلام، نتيجة للتوسع الجغرافي للفتوحات الإسلامية على مر العصور، مما أوجد حاجة ملحة لتسليط الضوء على القضايا الفقهية المستجدة في ذلك الزمان نظرا لتداخل الإرث الثقافي لتلك المجتمعات مع القيم والتعاليم الإسلامية الجديدة في ذلك العصر، وكان من البديهي إخضاع كل ما يؤثر على حياة الناس من عبادات وتعاملات إلى مصادر التشريع المتفق عليها وهي الكتاب والسنة والإجماع والقياس ولم يحصل الاختلاف بين الأئمة من السلف في أمور الاعتقاد على الإطلاق وإنما كانت خلافاتهم في الأحكام التشريعية، ويرجع السبب الرئيسي للاختلاف فيما بينهم على بعض الأحكام التشريعية إما لعدم توفر دليل صريح من الكتاب والسنة، أو لضعف حديث بحيث لا تقوم به حجة، أو غيره من الأسباب الأخرى التي لا تمس الثوابت. إذ الاختلاف كان منذ البدء متعلقا بمسألة مناهج الاجتهاد والاستنباط التي اتبعها أئمة المذاهب الأربعة ناهيك عن المذاهب الأخرى التي غيبت عن المشهد الفقهي طوال القرون الماضية والتي لا يتسع المجال للحديث عن سبب عدم الأخذ بآرائها الفقهية، فما يهم الآن هو الإجابة عن مدى أهلية الفرد المسلم لتحديد خياره المذهبي الذي يتواءم مع بيئته وظروفه المحيطة به، خاصة أن أي خيار مذهبي لن يتعارض بأي شكل من الأشكال مع العقيدة الإسلامية الصحيحة والتي هي النواة الحقيقية لكل المذاهب الأربعة، ولا أزعم أنني على اطلاع تام على مواطن الاختلافات بين المذاهب الأربعة إلا أنني وكغيري من أبناء المذاهب الأخرى واجهت جملة من الاختلافات المذهبية خارج النطاق الجغرافي الذي نشأت فيه. فمن المستحسن أن نتخلى عن فكرة العيش في نسق اجتماعي متشابه حتى في أدق التفاصيل، ولكن ثمة حوادث في تاريخنا الإسلامي تجبرنا على التأني طويلا قبل طرح مثل هذه الأفكار التي حتما ستثير جدلا واسعا كما حدث في السنوات الأخيرة حينما حاول بعض طلاب العلم الشرعي التنقيب في التراث الفقهي بحثا عن أوجه الاختلافات بين علماء العصور الماضية في بعض القضايا التي لا تزال محل جدل رغم مرور كل تلك السنوات رغبة منهم في إيضاح حقيقة بعض الأحكام التشريعية التي لا تخرج عن دائرة الاجتهاد والاستنباط ، مما أثار ثائرة بعض النخب الدينية لمجرد أخذ هؤلاء الطلاب بآراء تختلف عما يعتقدون هم بصحته، وهذا الذي جعل سياط النقد تلاحقهم أينما وجدوا لأنهم لم يدركوا حقيقة بعض تلك النخب المتعصبة للآراء التي تؤمن بصحتها حتى لو لم يكن لديها دليل صريح على صحتها. ولعل أوضح مثال يمكن استحضاره من تاريخ الأمة الإسلامية يبين مدى تأثير اختلاف الآراء الفقهية على سماحة الدين الإسلامي حتى بين أتباع المذهب الواحد هو ما تعرض له شيخ الإسلام ابن تيمية بعد فتواه المتعلقة بمسائل الطلاق ومنها طلاق الثلاث بلفظة واحدة، فلقد حوكم الشيخ ابن تيمية وزج به إلى السجن لأنه خالف علماء عصره الذين اعتبروا أنه خرق إجماع الأمة، وقضى الشيخ نحبه في السجن ضحية رأيه الفقهي بسبب أن هذا الرأي أُعتبر في ذاك العصر شاذا عن الإجماع، والغريب في الأمر أن هذا الرأي الفقهي أصبح فيما بعد من أكثر الآراء الفقهية ترجيحا في مسألة طلاق الثلاث في بلادنا. ختاما لا بد من الإشارة إلى أن الحديث عن الجدل الفقهي بين الأتباع قد يحمل شيئا من المبالغة إلا أنه بالتأكيد يكشف عن مدى توتر العلاقة حتى لو كانت تجمعهم عقيدة واحدة!