الرأي

شعب الذيب.. يا هيئة السياحة أدركي أنفاسه الأخيرة!

قرأت المقال المنشور بهذه الصحيفة تحت عنوان (التاريخ والمغنى.. تحت مجنزرات الشركات الإنشائية) بتاريخ 11/شوال/1437هـ، لكاتبه سعد الشريف، وقد تناول في مقاله ما يتعرض له (شعب الذيب) من تدمير منظم لبنيته الثقافية والتاريخية والأحيائية. وقبل أن ألج لمنصة التعقيب يجدر بنا أن نقول إن ما ذكره الكاتب ـ حفظه الله ـ صحيح تماما من جميع الجوانب، من حيث التدمير المنظم والمقصود لجميع القيم والجماليات الثقافية والتاريخية والأحيائية. وليس لدي ما أضيفه سوى أدبيات تاريخية وتأويلات مكانية يسيرة نرى أنها تكميلية أكثر منها رئيسة، وإلا فالكاتب أوفى وأجزل في مقولته، قلت: أولا ـ شعب الذيب عبارة عن ملتقى لأودية إقليمية تحدرت من مجموعة جبال جرانيتية خضعت لمواصفات الدرع العربي الجيولوجية، إذا اجتمعت به قبل (شعب الذيب)، وعندها كانت تشكل مصطبا حرجيا (قبل تدميره)، وكان يتمتع ببنية أحيائية جميلة، وهو المعني بقول الشاعر الشعبي: سقى الذيب من رايحات العشايا سقى حزومه مع دواجي نخيله وكانت به بعض موارد المياه المعروفة في تلك الناحية (من غير الدحول). يقول راعي الإبل عندما ورد مياهه: على بير الغريفي جيت أسقي ذلولي وشعب الذيب ما بين النزولي وبهذا الوادي (عين أو بئر) تسمى (عد الغريفي) بكسر العين، وهي مورد من موارد الناس في القرن الماضي، وفيها يقول الشاعر: عد الغريفي ليتنا ما وردناه ولا الغدير اللي عليه البدو يردون والعد بكسر العين كما ذكرت المراد به بئر أو عين، وهو من موارد بني غريف سكان الشعب وآهلوه. وأول من ذكره بشعب الذيب كتابيا هو عبدالله بن محمد عبدالشكور المتوفى عام 1257هـ، في مخطوطته (تاريخ أشراف وأمراء مكة المكرمة)، حيث ذكر بعض الأحداث الحربية المؤلمة لأهل شعب الذيب لا مجال لاستعراضها الآن، وملخصها أن حاكم مكة شن حملة تأديبية قوية إبان العصر العثماني نالت من أهله وعثا وأذى شديدا، وذلك في 9/صفر/1220هـ، بحسب نص المخطوطة، ونمط الحملات التأديبية نمط معتاد جدا نفذه الولاة، ونجد لها ذكرا واسعا في تراجم الفاسي ضمن مؤلفه العقد الثمين، وفي حسن القرى أيضا لابن فهد وغالبية المؤلفات التاريخية المكية، خاصة ما بعد القرن التاسع الهجري بسبب كثرة المنازعات بين أهل الأودية والوشايات، مما يعني أنها لم تكن نادرة، بل واسعة الاستعمال كنوع من الضربات العسكرية الخاطفة والسريعة. والمخطوطة محفوظة اليوم في مكتبة الحرم المكي الشريف، نسخها عن الأصل عبدالمجيد الصباغ عام 1337هـ، وعدد أوراقها 109، وعدد أسطرها 16 سطرا، وخطها جيد وخال تقريبا من التصحيف، وهي التي اعتمدت عليها في التوثيق. وهناك نسخة أخرى للمخطوطة لم يثبت عليها اسم الناسخ. وفي المخطوطتين ورد ذكر اسم وادي الطرفا، وحدد شعب الذيب تحديدا (وهو ما عنيناه في تعقيبنا)، ولم يكن مجهولا بالنسبة لي، فقد ضبطته مع كبار السن منذ عام 1418هـ، وتمكنت من تحديده، ووثقت ما قيل فيه من الشعر الشعبي. أما سبب ذكره وبقاء صيته فهو وقوع معركة شعب الذيب عام 1220هـ بهذا الوادي (وسط الأحراج)، وما زال أهله يحافظون على قيمته التاريخية والمكانية، وبقي معظمه سليما رغم الحرص على تدميره والفتك بطبيعته المكانية والثقافية والتاريخية. ثانيا ـ يقع شعب الذيب بكامله في الطرف الجنوبي لوادي الطرفا، ويتوسط خطي الطول والعرض (39-21 ، 46-39 )، ولا نختلف على التحديد المكاني. وما نشره الكاتب عن وعثه وتدميره صحيح تماما ومطابق للواقع، ونحن جميعا عايشناه بكل تفاصيله المؤلمة، فالشركة دمرت جزءا من تراثه الطبيعي، وعمدت إلى تشويه مظهره الجمالي وإفناء القيمة التاريخية والثقافية للوادي وطمس بقايا النشاط البشري والأثري، وتم ذلك ما بين أعوام 1422هـ و1435هـ عبر حفر قناتين متصلتين بطول 2000م وعرض 100م، بعد موافقة كاملة وواضحة وتواطؤ من قبل إدارة الشركة المنفذة، وكأنهم يباركون هذا الصنيع ويشجعون عليه رغم وجود شروط تلزم الشركة بالحفاظ على القيمة الجمالية والطبيعية والترفيهية! فما الذي خلف الأكمة؟ ثالثا ـ طرح صاحب المقال هذا السؤال المؤلم في معرض نصه (لماذا لم يتصد أهل شعب الذيب لهذا التدمير؟ وأين هم من تاريخ واديهم)؟ ووالله لم يسكت أهل الوادي ونشروا مجموعة من المقالات الصحفية والتوضيحات الرسمية للجهات المسؤولة، ولكن كان التجاوب ضعيفا على كافة الأصعدة، باستثناء تجاوبات يسيرة لم تكن كافية لوقف الذبح العشوائي (لجميع مظاهره الثقافية والتاريخية)، وهناك نية لتدمير المتبقي منه وغيره.. وسوف نرى ذلك قريبا، فالمبررات جاهزة. رابعا ـ كنا نتمنى من أمانة العاصمة المقدسة أن توثق الجوانب الثقافية والتاريخية والأحيائية بالشعب، خاصة مصطبة النادر قبل أن تمسه المجنزرات، حتى تتمكن من توثيقها تاريخيا وتثبيت هذه المخالفات، وبالتالي تطبيق لائحة الإجراءات التي توقف أي تهاون بالقيم المعرفية والموارد الطبيعية والأثرية، وإجبار الشركة على إصلاح ما دمرته أو دفع جزاءات مالية وفق ما نص عليه نظام العقوبات المعمول به في مثل هذه الأحوال. خامسا ـ ما تزال القيمة الجمالية والتاريخية للشعب مستمرة رغم التشويه الذي اعتراها وإزهاق بعض المعالم الأثرية والتاريخية، ومن الممكن أن يكون هذا الشعب موقعا تاريخيا وثقافيا جاذبا ومرتبطا بتاريخ هذه البلاد المباركة، ولكن الإبقاء على هذه الجماليات الثقافية والتراثية يتطلب جهدا منظما من الجهات السياحية وفق الآليات التنظيمية للمشروع الوطني الجديدة التي تفرض حماية قوية لأي موقع تاريخي أو تراثي يخص تاريخ هذا البلد ماضيا وحاضرا.