شهادة الزور
على مدار ثلاث مقالات سابقة.. تناولت مع حضراتكم بعضاً من الآفات السلوكية المدمرة التي حذر منها الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وكانت على التوالي النميمة، الغيبة، البهتان.. ولم نستكمل الحديث عن الرابعة، نظراً لتناول حادثة الطعن المروعة التي تعرض لها مقيم في بلدنا واليوم سنتناول كبيره أخرى وهي: شهادة الزور أو قوله، وهي تعتمد الحنث باليمين أو تزوير الحقيقة سواء كانت مكتوبةً أو منطوقة.. شهادة الزور: هي الكذب المتعمد في الشهادة.
الاحد / 12 / رجب / 1435 هـ - 21:15 - الاحد 11 مايو 2014 21:15
على مدار ثلاث مقالات سابقة.. تناولت مع حضراتكم بعضاً من الآفات السلوكية المدمرة التي حذر منها الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وكانت على التوالي النميمة، الغيبة، البهتان.. ولم نستكمل الحديث عن الرابعة، نظراً لتناول حادثة الطعن المروعة التي تعرض لها مقيم في بلدنا واليوم سنتناول كبيره أخرى وهي: شهادة الزور أو قوله، وهي تعتمد الحنث باليمين أو تزوير الحقيقة سواء كانت مكتوبةً أو منطوقة.. شهادة الزور: هي الكذب المتعمد في الشهادة. فكما أن شهادة الزور سببٌ لإبطال الحق فكذلك كتمان الشهادة سببٌ في إبطاء الحق. يقول الله تعالى (وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آَثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) البقرة “283”.
وقال صلى الله عليه وسلم: ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ثلاثاً الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وشهادة الزور أو قول الزور وكان متكئاً فجلس، فما زال يكررها حتى قلنا: ليته يسكت. ذلك أن شهادة الزور أو قوله خاصةً في هذا الزمان أحد أعظم أسباب الظلم والجور وضياع حقوق الناس في الأموال والأعراض.. وما ظهورُها وتفشيها والعياذ بالله إلا دليل على ضعف الإيمان وقلةِ الخوف من الله وهى أحدُ أشراط الساعة.. ولقد وردت الآيات الكريمة والأحاديث النبوية الشريفةُ ناهيةً ومحذرة من شهادة الزور أو قوله نظراً لما تلحقهُ من أذى وخطورةٍ على الأفراد والمجتمعات، وما تسببه من طمس لمعالم الحقيقة ونصر للظالم وضياع حق المظلوم، حين يتعهدُ الشاهد كذباً يقول الحقيقة وحدها دون سواها وهو في حقيقة الأمر يلغي الحقيقة ويُعلي سواها، وتعتبرُ شهادة الزور جريمةً خطيرةً لإمكانية استعمالها في سلب سلطة المحاكم، الأمر الذي يتسبب في تعطيل العدالةِ وإخفاقها وهي جريمة قد تصل عقوبتها في القانون المدني أو الوضعي إلى حد الإعدام.
ففي أمريكا على سبيل المثال وبموجب القانون الفدرالي تُصنفُ شهادةُ الزور كجنايةٍ تقود إلى عقوبة سجن تصل إلى خمس سنوات.. ويسمح قانون العقوبات في ولاية كالفورنيا لأن تكون شهادةُ الزور جنايةَ إعدام في القضايا التي يترتب حكم الإعدام فيها على شهادة زور. وليس ثمةَ مقارنة بين قانون وضع على الأرض وقانون نزل من السماء، يُجرمُ ويُحرمُ هذا العمل المشين الذي قد يودي بحياة بريء أو يتسبب في خراب بيوت عامرة. ومن هنا أتى ذمُّها في كثير من المواضع، ومنها الآيةُ الثانيةُ والسبعون من سورة الفرقان: (وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا). وفى سورة الحج الآية الثلاثون: “فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ”.
وهكذا عادل قولُ الزور الشركَ وعبادةَ الأوثان.. وحين تضاف كبيرة العقوق إلى جانب الشرك وفعل الزور، يظهرُ خطرُ هذه الكبيرة التي يتوجبُ على المؤمن أن يحذرها وألا يقع في محظورها تجنباً لغضب الله وسخطه.. وتفادياً للظلم والفساد.. وما مثلهما يقوضان مجتمعاً وما مثلهما يهدمان الأمم، ويفسدان حتى صالح العمل وأعظمه. ومن هنا جاء تحذير الحبيب صلى الله عليه وسلم من هذه الآفة، قال: من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجةُ في أن يدع طعامه وشرابه. صدق رسول الله عليه أفضل أتم صلاة وتسليم فما ترك من شيء يقرُبنا إلى الجنةِ إلا وأخبرنا به، ولا من شيء يبعدنا عن النار إلا ونهانا عنه صلى الله عليه وسلم بعدما تركنا على المحجة البيضاء ليلُها كنهارها لا يزيغُ عنها إلا هالك.
إنه الإسلامُ بكل أخلاقه وقيمه وتعاليمه الذي رضيهُ الله تعالى لأمة محمد صلى الله عليه وسلم هذا الدين العظيم الخاتم لرسالات السماء إلى الأرض بكل ما يحملهُ من خير وعظمة ومحبة ونقاء، نجد فيه التنفير عن الغلظة والحسد والنفاق وسوء الظن والرياء، والكذب والبهتان والغيبة والنميمة وشهادة الزور والحسد إلى آخر الصفات والأعمال التي تنكرها الفطرة ويعاقب عليها الدين.
وأعود إلى استشهادي بالآية الكريمة في مقدمة هذا الموضوع “ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه أثم قلبهُ والله بما تعملون عليم”. إنها دعوه مباشرة وأمر من الخلاق العظيم.. بعدم كتم الشهادة.. والبعض يتصور أنه إذا طلبت منه الشهادة فحينها يدلي بها ويشهد بما رأى أو سمع. وإذا لم تطلب منه وكان هو الشاهدُ الوحيد أو أحد الشهود المؤثرين ألا يدلي بها.
لماذا الانتظار وقد رأيت، ولماذا السكوت على ما سمعت.. وما ذنب ذلك المظلوم الذي قد يكون ضحية كتمك للشهادة.. والتي قد تكون له منقذة مما يعاني وعون للحقيقة التي حجبت بسبب شاهد كتم شهادته.
إن سكوتك عن حقيقةٍ تملك الدليل على صحتها إنما يجعل منك إنساناً معادياً في الحقيقة لكتمانك للحقيقة، والتي يسبب كتمانها شيوعاً لخلافها ودحراً لمبادئها. والأدهى من ذلك أن تشيع غيرها وتروج لسواها، الأمر الذي يبث الباطل ويعليه على الحق، ويعين أحياناً بل في كثير من الأحيان على نشر الذعر وترويع الناس.
ولقد حدث معي في الأسبوع الماضي أن وصلتني رسائل من بعض الذين أثق في أمانتهم وأخلاقهم: أن مستشفى بعينه في جدة أغلق بسبب إصابات “كورونا” حفظ الله الجميع – وكعادتي لم أتردد في الاتصال للتأكد والاستفسار عن كل ما أخبر به. فسألت صاحب المستشفى وهو أيضاً صديق: يا فلان هل صحيح أمر إغلاق مشفاك؟ فأقسم الرجل بالله إنه ليس لديه حالة واحدة في هذا الشأن، وأن المستشفى لم يغلق، ولكن هذه الإشاعة أصابته بضرر مادي بالغ وحرمت المرضى ومراجعي المستشفى من رعاية كانوا يتلقونها لأن تلك الإشاعة أصابت الناس بالذعر والهلع. فبادرت بالاتصال بالذين أرسلوا لي رسائل حول هذه الإشاعة.. وأخبرتهم بحقيقة الأمر.. فسارعوا بالاعتذار وتأسفوا على ما أحدثوه من أضرار.. ولكن بعد فوات الأوان. وعلى ذكر “كورونا” فقد لحقتني أنا أيضاً إشاعة مشابهة مفادها أنني مصاب ومحجوز في إحدى المستشفيات بجدة.. في الوقت الذي كنت فيه فعلياً في مدينة القاهرة .. وقد أطلعني أحد الزملاء العاملين معي على هذا الأمر.. وطلب مني أن يتدخل لطمأنة الناس بنشر الحقيقة للمجموعة التي تتداول هذا الأمر.. ولم يجد تدخله ونال ما نال من صلفٍ وعناد.
وكأن بعضاً من الناس يحبون أن تشيع الفاحشة بين المؤمنين. والفاحشة ليست هي الأمور المتعارف عليها جنسياً ولكنها كل فاحش من القول يؤذي وكل فعل يرتكب بغرض ترويع الناس والافتراء عليهم: {“إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ “ (النور آية 19) وهذا كما قال المفسرون تأديباً لمن سمع شيئاً من الكلام السيئ فقام بذهنه منه شيء، وتكلم به في حين أن المطلوب لمن سمع مثل هذا ألا يكثر منه ولا يشيعه ولا يذيعه.
وقال صلى الله عليه وسلم” لَا تُؤْذُوا عِبَادَ اللَّهِ وَلَا تُعَيِّرُوهُمْ وَلَا تَطْلُبُوا عَوْرَاتِهِمْ فَإِنَّهُ مَنْ طَلَبَ عَوْرَةَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ طَلَبَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ حَتَّى يَفْضَحَهُ فِي بَيْتِهِ”. (إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم..) أي يختارون ظهور الكلام عنهم بالقبيح وهل أقبح من أن يُرمى المرءُ في صحته وعرضه والعياذ بالله.
وأرجو أن يكتب الله لنا لقاءً قادماً نتحدث فيه عن كتم الشهادة خاصةً فيما يتعلق بالانتخاب والذي يتم فيه اختيار نفرٍ من الناس لتولي مسؤولية معينة أو قيادة بعينها أو إدارةً ما.. فقد يحدث في هذه المسألة كثير من كتم الشهادة لأغراض شخصية أو مادية تسبب أن يتولى الأمر غيرُ كفءٍ وأن يُحرم الكفءُ من تولى الأمور.. وعلني في لقاءاتٍ قادمةٍ بعون الله أواصل التركيز على سلبيات هذه الصفات المذمومة التي تنخر في جسد أمتنا التي أرداها الله خير أمة أخرجت للناس آمرةً بالمعروف ناهيةً عن المنكر.. أُمة الأخلاق التي بُعث رسولها صلى الله عليه وسلم ليتمها ليكمل الفضل والنعمة على عباد الله المؤمنين وليعم الأمن والسلام بين ربوعهم من أجل مزيد من الرخاء والبركة.