عباءة التدين اللامنتج

مرحلة مرت على البلاد كان الحرص فيها على الوعي الديني مسألة مهمة، ولها مبرراتها آنذاك، وقد آتت ثمارها توعويا لدى شرائح المجتمع في كافة المنشآت الحكومية التي بادرت إلى إنشاء قسم «الشؤون الدينية» الذي يوجه نشاطه إلى العاملين في المنشأة، وإلى المستفيدين من خدماتها التي يحتاج مراجعها الانتظار فيقضيه في قراءة بعض الكتيبات والمطويات الدينية.

مرحلة مرت على البلاد كان الحرص فيها على الوعي الديني مسألة مهمة، ولها مبرراتها آنذاك، وقد آتت ثمارها توعويا لدى شرائح المجتمع في كافة المنشآت الحكومية التي بادرت إلى إنشاء قسم «الشؤون الدينية» الذي يوجه نشاطه إلى العاملين في المنشأة، وإلى المستفيدين من خدماتها التي يحتاج مراجعها الانتظار فيقضيه في قراءة بعض الكتيبات والمطويات الدينية. أما اليوم فالأمر يتجاوز الوعي الديني، والمرحلة باتت أشد حاجة إلى تطوير هذا القسم، وتوسيعه بما يخدم الوعي المجتمعي في فروع أخرى سواء أكانت في الدين أم في غيره من شؤون الحياة، القسم الذي صار ملاذا للكسالى الباحثين عن الراحة هربا من الانضباط في أعمالهم ـ على الغالب ـ فإذا سلّمنا بنضوج الوعي الديني للمجتمع، فالحيرة تعتمل من تأثير هذا الوعي المحدود، وقصوره في تفتيق الأنساق الثقافية القديمة أو الناشئة حديثا؛ لأنه لم يركّز على الطرح العميق، ولم تجب محاضراته وكتيباته ومطوياته عن السؤالات العميقة الهدارة في صدر إنسان العصر الحديث واسع الاطلاع، المسكون بنوع ـ ولو يسيرـ من القلق الوجودي. في نظري، لسنا بحاجة إلى كائنات متدينة لا تقدم للإنسانية شيئا، ولا تحفر في المعرفة حتى تتموضع على خارطة إنسان العصر الحديث، وأرى أن تبادر الجهات الحكومية والخاصة من خلال هذا المبدأ إلى تحويل هذا القسم من «الشؤون الدينية» إلى «الشؤون الثقافية» والدين شأنٌ منها، لكن بطريقة مغايرة لما ألفه المجتمع في المحاضرات والكتيبات والمطويات الفاترة، التي لا تروي العطش المعرفي، ولا تنمي الإدراك العقلي، وتخاطب الإنسان بلغة وعظية عاطفية لا تلمس العقل إلا نادرا. عندما نفتح المجال لمحاضرين من شتى التخصصات ونوفر في قاعة الانتظار كتيبات في شتى العلوم، سنؤكد احترامنا لعقل الإنسان، وإعطائه المفاتيح المحفزة لتقدير العقل، والتفكير في ماهيته ودوره على هذا الكوكب، سيما وديننا يدعونا إلى التفكر والتدبر والعمل وإعمار الأرض، بحثا عن الإيمان الذي سيتحقق بحراكنا وليس بتعبدنا فقط، ولنا في سؤالات إبراهيم ـ عليه السلام ـ لربه أسوة حسنة، فالإيمان لا يقر في القلب بمثل تلك الخطب والكتيبات التقليدية. عندما أجلس في قاعة الانتظار، أو في مقر عملي، وأجد على الأرفف ما يستفز عطشي للقراءة، سأبادر، فما المانع أن تجتمع كتيبات الطب والفلك والهندسة والشعر والمسرح والميكانيكا والرياضة والاقتصاد وكل ما يهم المجتمع على رفٍّ واحد؟ ولماذا تتفرد جهة واحدة بفرض رؤيتها على الناس؟ ألم تكن كل العلوم تدرس في المساجد؟ فحتى مساجدنا لا يمنع أبدا أن تحوي كتبا معرفية وثقافية ومحاضرات علمية وثقافية، وألا تبقى دور عبادة فقط. فنحن بأمس الحاجة إلى أن نضع أقدامنا على خارطة الفعل الإنساني، وألا يستمر خمولنا المعرفي يراوح في خانة واحدة لا يشعر بنا العالم إلا في تذبذب براميل النفط الذي سنفقده حين لا ينفع البكاء. ها هي مكتبات التربية والتعليم خاوية على عروشها من كتب الثقافة العامة إلا ما ندر، ومكتبات القطاعات العسكرية والمدنية التي يديرها غالبا قسم « الشؤون الدينية» تفتقر إلى كتب الثقافة والفكر، وتدني مستوى الوعي الثقافي والمعرفي والفكري يُشعر بالأسى، ثم الانفصام المؤلم بين المثقفين والمفكرين والنوابغ ومجتمعهم، والكثير منا يحتجب عن العالم خلف عباءة التدين اللامنتج، يستفتي المشايخ دخول مجال علمي أو ثقافي، ويحرم نفسه ومجتمعه نورانية العلم المفضي إلى الإيمان وراء ذريعة «لا علم إلا العلم الشرعي» التي أحبطت الكثيرين وصرفتهم. يجب أن تبادر وزارة الشؤون الإسلامية أولا إلى تفتيق هذا النسق البائد، والتوجه بعزم إلى توجيه وعي المجتمع إلى ارتباط الدين والعلم واعتبارهما ثقافة، وتكامل العقل والعاطفة، فلسنا بحاجة إلى دراويش في زمن يبحث فيه العالم عن كواكب غير الأرض تستثمرها البشرية، ولنبحث عن الله في ملكوته الشاسع وليس في أقوال السابقين فقط.