حوش بكر أرض الفوضى
عندما وصلت السيدة المكية أم محمد إلى"حوش بكر" في أحد الأحياء خلف الهلال الأحمر بشارع المنصور، لم تصدق عيناها ما رأت
الأربعاء / 8 / رجب / 1435 هـ - 01:00 - الأربعاء 7 مايو 2014 01:00
عندما وصلت السيدة المكية أم محمد إلى 'حوش بكر' في أحد الأحياء خلف الهلال الأحمر بشارع المنصور، لم تصدق عيناها ما رأت. فهي كانت تسمع عنه لكنها لم تزره من قبل، وكانت تظن أنه مجرد مكان يتجمع فيه عدد بسيط من العمالة المخالفة ويفترشون الأرض لبيع بعض الحاجيات، إلا أنها ما إن وصلت هناك حتى رأت سوقا هائلة يعمل فيها المئات وسط فوضى عارمة، وكل افترش بضاعته على هواه.فأم محمد ما كان لها أن تفكر في الذهاب إلى الحوش لو لم تسمع من زميلاتها أنهن استعن بعاملات منزليات عن طريق سماسرة يقيمون هناك، ووفرن على أنفسهن مبالغ تصل إلى 20 ألفا، لاستقدام عاملة نظامية، إضافة إلى فترة الانتظار التي قد تصل إلى سنة.استعانت أم محمد بسيدة اعتادت الذهاب إلى الحوش وتفهم لهجات بعض المقيمين فيه من الأفارقة، وذهبتا معاً.وما كادت قدماها تطأ المكان، حتى سألت صديقتها: من أين جاء هؤلاء الناس؟ فأجابتها: هؤلاء الباعة كانوا يقيمون في عدة أحياء عشوائية في مكة أزيلت أخيراً، فحملوا بضائعهم وارتحلوا إلى هذا الموقع ليمارسوا فيه تجارتهم إلى جانب الموجودين من قبل.
لون فخاري
كل شيء في هذا المكان قديم وعشوائي لا يلفت فيه إلا اللون الفخاري الأحمر الذي يطالع الزائر من بعيد وهو متأت من الطوب الذي بنيت به المنازل. والوصول إلى السوق لم يكن سهلا كما بدا من الخارج.فعلى الزائر أن يترجل من سيارته ويبدأ السير في أزقة مستوية ولا يكاد يشعر بنفسه بأن الطريق تقوده صعودا من ضيق الزقاق الذي تناثر أيضا على جنباته أناس فرادى أو جماعات.وتتناهى إلى مسامع الزائر أصوات أطفال يحفظون القرآن في مكان يشبه الكتاتيب ويسمى «مركز تحفيظ القرآن».وبعد مسيرة دقائق ينتهي الطريق إلى فناء ترابي فسيح امتلأ بالناس والباعة والبسطات البدائية. هنا منتجات غذائية منتهية الصلاحية.وهناك مستلزمات منزلية وأجهزة الكترونية وجوالات قديمة يعتقد أنها مسروقة، وثياب وأحذية مستعملة، وأوان منزلية قديمة وحتى مستحضرات تجميل وأدوية غير مصرحة، وكلها معروضة في الشمس والغبار.وفي لحظة تتحول تلك الزوايا الترابية إلى مسجد يصطف فيه الرجال بعضهم وراء بعض لأداء الصلاة، ثم يعودون إلى بسطاتهم.واللافت أن زبائن السوق ليسوا فقط من المخالفين بل بينهم سعوديون ومعتمرون يأتي بهم سائقو أجرة عندما يسألون عن سوق شعبية سلعها رخيصة.ويقول سعودي من الساكنين في جوار الحوش: كل ما يباع في السوق منتجات قديمة من مواد غذائية وأجهزة كهربائية جرى عليها الزمن وأراد أصحابها أن يتخلصوا منها فأتوا بها إلى هنا لبيعها بسعر بخس. أما موضوع العاملات المنزليات الذي جاءت أم محمد من أجله، فلم يكن بالسهولة التي تصورتها وتبين أن له مفاتيح ومسالك لا تسلك إلا بالمعارف وأهل الثقة..واللهجة الأفريقية.
.. ومكاتب استقدام متنقلة
عرفت سيدة نيجيرية مخالفة في حوش بكر، كيف تعزف على رغبات كثير من السيدات السعوديات بأن توفر لهن خادمات منزليات بأقل كلفة ومن دون أي روابط قانونية. وتؤمن النيجيرية، وهي واحدة من كثيرات افتتحن مكاتب استقدام متنقلة في عشوائيات مكة المكرمة، عاملات منزليات من الأفارقة من أقاربها أو من فتيات تؤويهن في منزلها، مقابل سمسرة لا تزيد على 200 ريال، وهذا مبلغ لا يساوي شيئا أمام كلفة الاستقدام التي تصل إلى 20 ألفا، بحسب معلمة في المرحلة الثانوية رفضت ذكر اسمها. وتقول: أنا استعنت بعاملة منهن، وتجنبت متاعب المستقدمات اللواتي انتظرت واحدة منهن 7 أشهر ولم تصل، بينما السمسارة النيجيرية أحضرت لي عاملة بناء على المواصفات التي أردتها خلال يومين ولم تطلب مني شيئا سوى أتعابها وهي 100 ريال فقط. إلا أن ما حصلت عليه المعلمة من خلال إحدى معارفها، ليس ميسرا لكل الناس، ويغدو البحث عن واحدة من دون مساعدة أمرا مضنيا. فنورة لم تجد ما أرادته في حارة يمن بشارع المنصور، وبشق النفس أرشدتها إحدى المقيمات إلى حي الملاوي، لكنها لم تجد فيه شيئا أيضا. وهناك أيضا أرشدها شاب يدعى محمود إلى «حوش بكر»، قائلا: السماسرة والعاملات المنزليات موجودون في حوش بكر..ونسمع أن كثيرات منهن يقصدن أحياء راقية كالعوالي والسبهاني والإسكان والعزيزية والفيحاء والرصيفة، سائلات عن عمل في المنازل.في حوش بكر، حصلت نورة بمساعدة سيدة سعودية، على رقم سمسارة أفريقية تدعى «فاطمة»، وراحت تتصل بها حتى ردت عليها في اليوم الثالث..وكان أول كلامها لطمأنتها، أنها حصلت على رقمها من فلانة وأنها تريد عاملة..عندها اطمأنت فاطمة وراحت تستفسر منها عن مكان سكنها وعدد أفراد الأسرة ومواصفات العاملة التي تريدها، موضحة أنها ليست لديها عاملات إلا من نيجيريا وهن نوعان: الأولى دائمة الإقامة لدى ربة العمل وراتبها 1500 ريال، والثانية إقامتها غير ثابتة أي تتنقل للعمل بين المنازل وراتبها 2000 ريال لأنه يتضمن بدل النقل.وكذلك 150 ريالا «بقشيش» لها.من جهته، أكد الناطق الإعلامي بشرطة منطقة مكة المكرمة المقدم عاطي القرشي أن الحملة الأمنية التصحيحية لمخالفي أنظمة الإقامة والعمل في منطقة مكة المكرمة مستمرة في ضبط المخالفين، موضحا أن هناك خططا جاهزة مبنية على دراسات جنائية ومعلومات ديموغرافية عن أماكن تواجد المخالفين وتجمعاتهم وجنسياتهم، إضافة إلى تصور كامل لعمليات الضبط المتوقعة وما يحتمل أن يصاحبها، وحددت أساليب مناسبة لمواجهة المخالفين والتعامل معهم.
المخالفة أوفر..
تظهر المقارنة بين استخدام عمالة منزلية نظامية أو مخالفة، فرقا هائلا في الكلفة والإنفاق:
- استقدام عاملة فلبينية:
- متطلبات: أصل التأشيرة، 15 ألف ريال نقدا، الهوية
- فترة الاستقدام: 6 أشهر لغير المسلمة، 12 شهرا للمسلمة
- الراتب: 1400 ريال شهريا يودع في البنك، راحة 8 ساعات يوميا، إجازة يوم أسبوعيا، تسليم الجواز أو الإقامة عند الطلب
العمالة المخالفة:
- قيمة السمسرة: 50 - 150 ريالا
- الشروط: معلومات عن صاحبة المنزل ومساحته وعدد أفراد الأسرة.
- الراتب: شهري: 1400 – 1500 ريال
- يومي: حسب الاتفاق الذي يشمل توفير مواصلات أو سداد قيمتها.
- خدمات إضافية: إذا لم تكن العاملة نافعة تستبدل فورا بقيمة السمسرة نفسها، توفير كل المواصفات التي تريدها صاحبة المنزل: العمر، الطول، الوزن، لون البشرة.
.. وتجارة بدهن العود
سعر تولة دهن العود في حوش بكر، تبدأ من 5 ريالات، والبائعة تؤكد أنها أصلية.إلا أن من اشتراها وأخذها إلى المختبر، ظهرت له نتيجة مختلفة لا تخلو من خطورة، إذ تسبب حساسية للجلد بمجر وضعها عليه نظرا إلى النسبة العالية من مادة كحولية وزيوت موجودة فيها.ولفت إلى أن عامل المختبر أبلغه بأن العود يمكن اختباره بوضعه بالماء فإذا امتزج به كان أصليا، وإذا طفا على السطح فيكون مغشوشا.
.. وصيدلية الشمس والغبار
أخذت بائعة مستحضرات تجميل في حوش بكر، تعرض على نسوة استوقفتهن كريمات عناية بالبشرة، وصابونا وغسولا للوجه، وأدوية تحارب الصداع وآلام العضلات والمفاصل وعسر الهضم وغيرها من الأمراض، مدعية أنها تعلم فائدة كل ما لديها وأن منتجاتها الآتية من نيجيريا، من أجود الأنواع وأفضلها حتى إنها تنافس المستحضرات الصيدلانية.وخاطبتهن قائلة: لن تجدن أفضل منها، لا في جودتها ولا في أسعارها التي تبدأ بـ10 ريالات ولا تتعدى الـ 100.اشترت سيدة 3 أنواع مختلفة من الصابون الخاص بالبشرة، بعدما أقنعتها البائعة بمدى فاعليتها وتأثيرها الإيجابي على البشرة، شارحة لها طريقة استخدامها: تبرش الأنواع الثلاثة بعضها مع بعض ويضاف إليها قليل من الماء ثم توضع على البشرة عند الاستحمام..ومن المستحضرات الأكثر رواجا، خلطات تفتيح البشرة بـ 15 ريالا.وتؤكد البائعة أن مفعولها سيظهر خلال يومين..الخلطة تحول لون البشرة من الأسمر إلى الأبيض في لمح البصر!استشاري الجلدية محمد السعيد صاحب معمل للتركيبات الصيدلانية بالعاصمة المقدسة، قال إن مختبره أخضع عينات من تلك المستحضرات، وتبين أن فيها مواد خطيرة كالهيدروكينون والكورتيزون، التي قد تؤدي إلى الإضرار بالبشرة، خصوصا عند تعرضها لأشعة الشمس، مؤكدا عدم وجود كريمات تفتح البشرة خلال يومين، وقال: يتكون الجلد من 7 طبقات، ومادة الميلانين وهي الصبغة التي تمنح الجلد لونه، توجد في الطبقة السابعة وتساعد على حمايته من الأشعة فوق البنفسجية، ومن المستحيل أن تفتح البشرة في يومين، لأن الأمر يحتاج لمدة شهر على الأقل.وحذر السعيد من الانقياد خلف هذه المستحضرات لخطورتها، داعيا هيئة الغذاء والدواء لمكافحة مثل هذه المخالفات.
.. وعاملة تروي الحكاية
روت سمسارة عمالة منزلية أفريقية مخالفة لـ»مكة»، كيف تحولت من عاملة إلى صاحبة عمل تشغل بنات جلدتها في منازل. وتقول: دخلنا السعودية تهريبا بمراكب محطمة وقديمة عبر أحد منافذ البحر الأحمر، مع عدد من أقاربي وأبناء قرى فقيرة تعاني من الفقر والجوع وعدم الاستقرار وأحيانا بعض اللاجئين يموتون ولا يصلون..نحن تعرضنا لمخاطر جمة في الطريق، لكننا وصلنا إلى مكان آمن، وجدنا فيه رزقا واستقرارا، وذلك مقابل 4 آلاف ريال يدفعها كل شخص للمهربين.وتضيف: بعدما عملت واستقررت بدعم من أقارب سبقونا، استأجرت منزلا بـ 2000 ريال شهريا واستضفت فيه 6 من البنات أؤمن لهن عملا في المنازل وأتقاضى سمسرة عن كل عمل 200 ريال.أفاد الناطق الإعلامي لحرس الحدود بمنطقة مكة المكرمة العميد محمد سعد، أن معظم المخالفين هم من متخلفي الحج والعمرة، أو الهاربين من كفلائهم أو تم تهريبهم إلى السعودية بمساعدة مواطنين مقابل مبالغ مالية زهيدة، مؤكداً إحباط كثير من عمليات التهريب، وقبضنا على أفارقة كثيرين حاولوا دخول المملكة عبر المنافذ الجنوبية بواسطة تقنية الكاميرات الحرارية والرادارات، لافتا إلى أنه يتم يوميا القبض على نحو 600 إلى 800 متسلل، علماً بأن العام الماضي شهد توقيف أكثر من 400 ألف متسلل.
مشروب الطاقة التكروني'الفُرا'
يغطي اللبن الرائب أرجاء حوش بكر، حيث لم تخل بسطات النساء المترامية على حافتي الطريق منه.فالجميع هناك يقف وعيانه تقتنص حصيلته من اللبن ومكعبات الثلج الحاضرة مع حلول شمس الظهيرة.وقد نافس «الفُرا» منتجات عدة في حوش بكر من حيث معدلات الشراء، ولاقى رواجا كبيرا بين السكان وحتى الزائرين للمنطقة، نظرا لسعره المهضوم جيبا، والمريح معدة، والنافع جسدا.تحالف بشري وزراعي اجتاح السوق الشعبية بـ «دقيق الدخن واللبن الرائب»، وكنيته الشائعة «مشروب الطاقة التكروني»، وهو دقيق دخني معالج بأنامل نسوية تحركه بعصا حركتها أبطأ من سير عقارب الساعة. الفُرا، اسم من بضعة أسماء عرف بها ذلك المشروب البارد وتعلقت بأحد الشعوب الأفريقية «الهوسا»، المتناقل بين أيدي السكان في حوش بكر والمعروض في هيئته المطبوخة الطازجة عقب تكويره وتغطيته بدقيق الدخن، إما لشرائه وصنعه في المنزل أو الطلب من السيدة تجهيزه وشربه بجوارها لإعادة وعائها لها.هذا المشروب المحلى بالسكر والمطعم بقطع الثلج، هو في مجمله مزيج من عائلة نشوية بروتينية ضيفها الأبرز الكالسيوم، تعود أصوله إلى الأفارقة من الهوسا والكنو واليربا والزبرما وحتى البرنو وأشقائهم الفلاتة على اختلاف طريقة تحضيره المصنعية في السودان التي أظهرت ولاءها وانتماءها «للفُرا» ومناداتها له باسمه المعروف في أنحاء عدة من قراها ومدنها «القدو قدو» أو، حيث اشترك معها في هذا المسمى مناطق متفرقة في نيجيريا. تقول السيدة، بدرية موسى الكنوي، من أصل نيجيري، إن الفُرا هو المشروب السائد في نيجيريا، وبالنسبة للأهالي في القرى والمدن فإنه يعد المشروب الصحي والمفيد لجسم الإنسان، حيث يمنع الجفاف في الحر ويعوض الجسم بالسوائل ويمنحه الحيوية والنشاط كونه مكافحا للأرق والإجهاد البدني نظرا للعناصر الموجودة في اللبن، كما أنه يفيد في حالات ارتفاع ضغط الدم، والتهابات المعدة والقولون، لذلك أطلق عليه البعض «مشروب الطاقة التكروني». مسميات أخرى أيضا كانت وليدة الشارع والناس، فأصبحت لصيقة بالسيرة الذاتية «للفُرا»، شراب الشمس، ومشروب الطاقة التكروني «الأشهر»، والمُكيف، وجك الصيف.