التاريخ لا يرحم.. ويسخر ويهزأ

حقائق التاريخ تملك قوة الثبات وتفرض نفسها كأمر واقع متجدد يَذكُر للناس أقوالهم وأفعالهم، ويُذكر بها كما هي، يقاس على ذلك أن لكل شخص بضاعته بالتمام والكمال

حقائق التاريخ تملك قوة الثبات وتفرض نفسها كأمر واقع متجدد يَذكُر للناس أقوالهم وأفعالهم، ويُذكر بها كما هي، يقاس على ذلك أن لكل شخص بضاعته بالتمام والكمال، حيا أو ميتا، هذا ما سيرده التاريخ لكل من تحمل مسؤولية تنفيذية في سبيل تنمية الوطن وخدمة أهله والمقيمين فيه، واليقين يتخطى الظن في كل حال ليؤكد أن سجلات التاريخ لا تماطل في كشف حساباتها ولا تجامل في ضبط الوقائع حتى وإن أخذت المحاولات مجراها في التلطيف أو تحسين الصورة، وتلوينها بأسلوب دفن الانهزامية وطي العيوب. النتيجة في هذا المنحى حتما ستنتهي بكل المحاولات إلى عناصر صدئة يسخر منها مقام التاريخ ويهزأ بها. كم من مسؤول مر من بوابة الأيام، بعضهم لا زال سجله الناصع ينبش ذاكرة الناس ويبادلونه السلام حاضرا، ويذكرون محاسنه غائبا، يلتفتون إلى إسهاماته في صنع المنجزات باحترام وتقدير، يتذكرون مواقفه مع الأحداث الوطنية، ويتبادلون أطراف الحديث على موائد ذِكراه بالجزل الرفيع من الأقوال، وينتهي الأمر بالاتفاق غير المرتب له بين الإنسان والمكان على تخليده في الذاكرة المشتركة متحركا كل ما طرأ الطارئ وشمرت الليالي عن سواعدها. واحدا تستحي كل زوايا المكان من عبوره حتى عبر الأثير، وتتلون وجوه الناس غاضبة وكأنها كارهة كلما حل طاريه، سواء كان على الأرض أو تحتها، وقلما يسلم هذا النوع من ضربات الألسن.. وبعض الكلمات أشد وقعا من الخناجر، ولأي منا أن يتصور كيف تمد مواقف الإنسان النبيلة أو أفعاله الأمينة حضورها عبر التاريخ إلى كل ذي صلة به، وعلى غرار ذلك يمكن تصور انعكاس حال النقيض على من حوله. كعادته التاريخ يحتفل بمن يصافحه بطهارة، ولا يرحم من دخل إليه محملا ببضائع الخدلان، وللناس -هم الآخرون- عادة في فتح خزائنه ليقول قوله الفصل كلما درات الأيام وألقت بحمولاتها في معترك الحياة. السياق يفرض الإشارة إلى أنه علاوة على مكارم الأخلاق وأخلاقيات المسؤولية وشرف الواجب، أرى بكل قناعة أن أي إنسان يضع لدفاتر التاريخ مكانا في مسيرته، الرسمية أو غير الرسمية، لن يخسر أبدا، وستحط به القوافل في المحطات الصحيحة لتدون الأقلام ما تبرأ به ذمة المحابر على الأوراق البيضاء، وفي اعتقادي لا يوجد مؤشر على احتمالية النجاح والفلاح أكثر من أن ترى من يضع للتاريخ حسابا ومكانا بعين الاعتبار، للمدارة على السمعة والقيمة الاجتماعية والوطنية. وصُفْر الأوراق إذن تبقى من نصيب من يرى أن التاريخ وسيع، فم ثرثار تتطاير أوراقه مع الزمن، اتباع هذا المذهب معلومون في ثقافة العرب وتقاليدهم، وفي الأعراف العربية لهم منزلة منزوعة الشيم، خالية من الحَسب -والحقيقة الراسخة التي لا مجال لتجاوز حدودها هي أن أكرم الناس عند الله أتقاهم-. في العموم، من يُلقِ بظهره لاستجوابات التاريخ وأسراره يقرب المسافة بين سمعته والأرض، والسمعة -كيفما كانت- تنتقل مرحليا للأحفاد، وهي البصمة الموروثة والعلامة الفارقة في المسيرة، ومن هنا يُثبت التاريخ أنه قادر على كشف هوية الناس الحقيقية، من أقصى الجذور إلى أدنى الفروع، ويبقى من القول: إن الخوف من تقليب صفحات التاريخ وهيبة محاكماته يعتبر شجاعة تدفع كل عزيز قوم يرى في المسؤولية امتحانا كبيرا، ويرى أن في السمعة أمرا جللا، إلى العلياء، لتكون بالتالي حركته في الحياة متوازنة عصية على الانزلاق، وهذا النوع في رأيي هو المرشح الأنسب لإدارة المراكز التنفيذية مهما كان مستواها او درجتها في المرحلة الراهنة. وهل لها غير عزيز النفس متوازن الخطوات القوي الأمين الذي لا يمكن تحويله إلى مغزل في يد حائكة عمياء؟