الرأي

غياب الضمير

(كان الطب معدوما فأوجده أبقراط، ومبعثرا فجمعه الرازي وناقصا فأكمله ابن سينا)، «قول مأثور». الطب مهنة إنسانية تجمع بين العلم والأخلاق العالية، أساسها الرحمة ورسلها الأطباء الذين يمارسون مهامهم بكل نبل وشرف. وحظي الأطباء عبر التاريخ بتقدير واحترام مجتمعاتهم نظير ما قاموا به من جهود عظيمة لمعرفة الأمراض وتصنيفها، إضافة إلى بحثهم المستمر عن سُبل العلاج والشفاء. ولا يخفى على أحد مساهمة الأطباء العرب والمسلمين في عصور الحضارة الإسلامية التي امتدت إلى نحو ثمانمائة عام بنهضة الطب الحديث، كما أن الاكتشافات الطبية الخالدة لابن سينا، وابن النفيس، وابن الهيثم وأبو القاسم الزهراوي تم توثيقها في مخطوطات أشهر الجامعات الغربية. منجزاتهم لم تقتصر على مجال الطب الذي برعوا فيه ونقلوه للأجيال والحضارات اللاحقة، بل أسهموا مع غيرهم من العلماء بتطوير العلوم الطبيعية والفلك والفلسفة، وكان سلاحهم في ذلك المخزون الهائل من الثقافة والحكمة والتسامح، فنالوا المجد ودخلوا التاريخ من أوسع أبوابه. وإذا التفتنا إلى العصر الحديث، أدركنا على الفور أن هنالك تغيرا جذريا في هذه المهنة النبيلة، فقد حدث تقدم هائل ومذهل على صعيد الأجهزة والمعدات الطبية وصناعة الدواء، بالإضافة إلى توسع كبير في العلوم الطبية، مما يتعذر معه الإلمام بهذا الكم الهائل من النظريات العلمية والبيولوجية التي تتعلق بنشأة هذه الأمراض التي أصبحت معرفة أسرارها أكثر احتمالا من أي وقت مضى، وبالتالي نهاية عصر الطبيب الشامل الذي يعالج الإنسان في حالة اعتلال البدن والعقل معا، مع قيامه بممارسة دور المرشد والمعلم. إذن، فقد أصبح بحوزة الأطباء أفضل وسائل التقنية للتعرف على المرض والوصول للتشخيص، كما أن ممارسة المهنة أصبحت أكثر تنظيما بعد توزعها بين عدة تخصصات رئيسية، تتفرع من كل منها تخصصات دقيقة، مما ساهم بشكل واضح في التعرف على تلك الأمراض عن كثب، كما أنه منح الأطباء المزيد من الوقت للبحث عن أفضل السبل لمحاربة الألم والمرض. وفي المقابل فإن الأطباء أنفسهم قد فقدوا الكثير مما تميز به أسلافهم القدامى من حيث الممارسة الشمولية لمرضاهم، فأصبحت معاملة الإنسان تتم كحالة مرضية محددة دون الاهتمام بما يحيطهم من عوامل بيئية ونفسية. ولو أتيح لنا العودة لتاريخ الطب الحديث في بلادنا العربية فإن الجهود العظيمة التي قام بها الأطباء الرواد من فلسطين والشام والعراق ومصر والسودان قد كانت مثار الإعجاب لما امتلكوه من صفات أسلافهم الأطباء العرب والمسلمين، فقد عملوا في الكثير من البلاد العربية حديثة الاستقلال، وفي ظروف استثنائية وفي مناطق نائية، كان معظمهم أدباء وشعراء مارسوا الطب بالكثير من النبل والأمانة. وفي فترة لاحقة، أي في بداية التسعينات من القرن الماضي، شهدت دول مجلس التعاون، وفي مقدمتها المملكة نهضة علمية وطبية هائلة ساهم بها العديد من الأطباء العرب والأجانب، مارسوا الطب بأخلاقيات وأعراف المهنة، وغرسوا تلك الصفات في عقول وضمائر تلاميذهم. الآن ونحن في سنوات التقدم السريع في خدمات الشبكة العنكبوتية ووسائل التواصل الاجتماعي، أصبحنا أمام واقع جديد وصعب للغاية. فقد شارك بعض الأطباء، كغيرهم من أفراد المجتمع، مبكرا وتطرقوا للكثير من القضايا الاجتماعية والأدبية، إلا أن سلوكا عاما نشأ في الوسط الطبي بضرورة الابتعاد عن محاولة التشخيص واقتراح الحلول العلاجية، بل يكتفى بالإرشاد والتثقيف الصحي. فالأطباء اعتادوا مناقشة تجاربهم وآرائهم الطبية في قاعات المحاضرات وفي ردهات ورش العمل والمؤتمرات، والتي طالما تخللها الكثير من الجدل باختلاف المدارس والتجارب، إلا أن أحدا منهم لا يجرؤ على الإطلاق وفي حضرة زملائه أن يأتي بشيء مخالف للتوصيات العلمية المبنية على التجربة والبرهان Evidence Based. هؤلاء الأطباء وجدوا أنفسهم أو شاهدوا بعض زملائهم في نقاش وصراع في مواقع تويتر والفيس بوك دفاعا عن أخلاقيات وممارسة المهنة أمام العامة، كل في تخصصه، مما سبب الكثير من الاستياء والإرباك، ولكي نبقى منصفين، فبالرغم من المخاطر التي طرأت على ممارسة بعض الأطباء المخالفين إلا أن غالبية الأطباء ظلوا أوفياء لمبادئهم وقيمهم وانحصر دورهم على التوعية والإرشاد. وفي الوقت الذي تخلى بعض الأطباء (وهم قلة ولله الحمد) عن أخلاقيات وآداب مهنة الطب، فإنهم روجوا لممارسات خاطئة للغاية يستحيل أن يتم نقاشها، بل مجرد عرضها في المؤتمرات الطبية أو النشرات في الدوريات العلمية، وبالمقابل فإنهم أسندوا تلك المهمة للعامة في وسائل التواصل الاجتماعي، والذين لا شك يغيب عنهم الجانب العلمي والمحاذير الصحية، وتم تناقلها على أنها حقائق علمية لا تقبل النقاش أو الجدل. أما حين صدرت تلك الممارسات المخالفة من خارج الحدود ولمواطنينا الذين فشل نظامنا الصحي في إيجاد حل لمشاكلهم الطبية، فإن تلك التجربة شجعت أطباء آخرين للمضي بكل شجاعة في تجربة جديدة لم تزل طور التجربة في بلدها الأصلي ولم تتم إجازتها. لقد تم الترويج لها خارج ذلك القطر العربي وتم استهداف مواطنينا دون السماح بإجرائها على مواطنيهم! حدث ذلك في ظل غياب تام للضمير.