180 درجة
الاحد / 24 / ذو الحجة / 1437 هـ - 18:45 - الاحد 25 سبتمبر 2016 18:45
منذ أن استطاع الإنسان قياس الأشياء المعنوية، ونحن نقيم اعتبارا لمدى تغير النظرات وتسابق الخطوات، ولا تحدث في الأجواء ظاهرة كونية أو اجتماعية إلا ووجدت من علماء الإحصاء أو الرياضيات أو علم الفلك والفيزياء من يضع لها موازين ودرجات مقدرة تتابعها متابعة الرقيب.
فكما وضع «ريختر» للزلازل مقياسا، انبرى علماء النفس لوضع مقاييس للذكاء والعاطفة والتفكير، ووجد علماء الاقتصاد في المعادلات الرياضية شفاء لما في الصدور، فابتكروا المؤشرات واستمعوا للتحليلات وانهمكوا في إحصاء الهبوط والارتقاء وقياس حجم الخسائر وتقدير كمية الأرباح، وجعلوا من الميزانيات علما يتفرغ له باحثون وناشطون.
أما الزوايا، فما بين الحادة والقائمة مساحة يتفرع على نقاطها الكثير من حروف التقدير والتأشير للدلالة على مصطلحات معينة يعنى بها أهل الهندسة في مجال الأطوال والمساحات، لتنتقل العدوى من كتاب «التفاضل والتكامل» و»حساب المثلثات» إلى تعبيرات الناس البسيطة والعفوية، فيطلقون على المستقيم في عمله بأنه زاوية قائمة أينما ارتطمت بقائم من قائميها أصابتك رجة صدعية بسبب تقيده الشديد والتزامه العظيم، معتبرين الـ90 درجة وحدة قياس لتجمده.
وحين يميل أحدهم في أدائه نحو اليمين ويصبح من أهل التطرف والظلم والقهر واستعباد الآدميين يجد في الزاوية الحادة ملجأ لسلوكه، ويرفل بين درجات للقياس من الـ89 درجة تنازليا وحتى يلتصق بقائم الزاوية الآخر المنبطح، ويقضى عليه بشر أعماله ونهم ساديته، وتهتم نفوس أخرى بالقيام من تلك الكبوة والارتطام بالأرض لترتقي صعودا نحو الدرجة الصفر التي هي الـ90 درجة دون أن تبلغها متجهة بممارستها عكس الظالم والدكتاتور السابق ولكنها تبقى مأسورة في زاوية حادة من الأخطاء لا تستطيع الانعتاق منها إلا بخط مستقيم ساقط على أحد قائمي زاويتهم قد يخفف عليهم عذاب الضمير.
وساعة الفرج لا يعرف متى تحين، ولا من أين تأتي، هل من ضغط الزوايا القائمة التسعينية؟ أم من محدودية أفق الزوايا الحادة والجارحة للغير دون اعتبار لنفسيات من نتعامل معهم، أو من نملك طرفا من مصائرهم الدنيوية ـ حسب ظننا ـ ولكنها عندما تأتي تأكل كل القيم الحسابية، وقد تصل درجة التغير لأمد لم يكن يتوقعه أكثر الصابرين تفاؤلا، وتكون تلك القيمة التي غالبا ما نعبر عنها بالـ180درجة، ونحن نبتسم إن كان التغير للأحسن، ونحترق إن غير الله ما بنا بما نقترف من سوء.
قضية الـ180درجة نابعة منطقيا من حاصل جمع الـ90 مع الـ90 الأخرى، لتكتمل معادلة الحركة بين طرفي النقيض والقفز من نقطة أخيرة لنقطة البداية دونما استقرار أو ثقة ببقاء الأشياء على حالها، مهما طال الزمن أو توالت الأيام، والمفرح في الأمر أن مثل هذه الاستعارات الحسابية من علوم ليست لها صلة بتحديد مقدار التدين مثلا أو نسبة العدل أو سلوكيات الأطفال أو نمط التأزمات ترضي الفضوليين وتكتم غيظ المستغربين، لأن الموضوعية توجب أن يكون لكل حكم قدر، ولكل كمية من المشاعر ميزان.
وعن لي أن العقل البشري لا يستطيع إدراك التحديد لغير الملموسات إلا بالتشبيه والتقريب، وليس هناك أدعى للقناعة من «واحد زائد واحد يساوي اثنين» ومن هذا يأتي قوله تعالى «فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره» وقوله «وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها»، وقوله» ونضع الموازين القسط ليوم القيامة» حتى تقترب الصور، ويسهل تقدير حجم المسؤولية مقارنة بدقة التقييم.
والحرية تبرز في الـ180درجة أنها درجة مسموحة القفز، ونحن نرى هذا النوع من المقاييس حاضر الوجود حين قال ربنا: «بل الإنسان على نفسه بصيرة» والمصائب تقلب الأوضاع، والأمن من مكر الله يزين الارتداد عن الدرجة الكاملة.
عندما أسمع من صديق عن شخص أنه تبدل 180 درجة، أحاول أن أتصور الزاوية المنفرجة وكيف وصلت لهذا الحد فتصبح خطا مستقيما قابلا لإسقاط أعمدة الإنارة عليه دونما عناء من ضيق الحدود وصلابة القوائم، وأستشعر كمية المفاجأة التي تعلو وجه صديقي وهو يخبرني بالأرقام عن ذلك الرجل، وكيف تسنى له أن يتخطى حواجز التدرج ليصل لـ180درجة بين عشية وضحاها.
في الظاهر أن التغير لـ180درجة يحدث دفعة واحدة، ولهذا تقدره العيون بـ180 درجة، ولكن الحق بأن ما من شيء يحدث دون مقدمات، فالفارق بين طائرة تقطع الـ1000 كم في الساعة وسيارة تقطعها في أكثر من ست ساعات يوضح الاختلاف.
وما أحب السؤال عنه: كم ستكون - يا ترى - درجة التغير عند الطفل بعد التحاقه بالصف الأول الابتدائي بشهر من تغريب المعلم وتشريقه به؟ وهل يستطيع والده أن يطلق على تلك التغيرات النفسية التي طرأت عليه بحيث أصبح يكره المدرسة كرهه للمأكولات المنزلية، 180 درجة؟ بعد أن كان يهذي وهو نائم في سن الخامسة بيوم يحلم فيه أن يذهب مع إخوانه صباحا لمدرسته حاملا حقيبة ثقيلة وآمالا تبدلت مع الأيام 180 درجة.
baba.m@makkahnp.com