متوقف

تحمل المصطلحات الفقهية القديمة كثيرا من الجمل المركزة التي تعبر عن معنى واسع الدلالة لغويا ومنهجيا، وتستعمل في عدد مهم من القضايا، ومن هذه المصطلحات (متوقف)، وتعني لدى الفقيه أو المستفتى في قضية ما أنه لا يعرف لها حكما خاصا بها، ولا يعلم حقيقة ما يسأل عنه، فلا يجيب عن السؤال ولا يحمل نفسه مسؤولية ما يفتي به

تحمل المصطلحات الفقهية القديمة كثيرا من الجمل المركزة التي تعبر عن معنى واسع الدلالة لغويا ومنهجيا، وتستعمل في عدد مهم من القضايا، ومن هذه المصطلحات (متوقف)، وتعني لدى الفقيه أو المستفتى في قضية ما أنه لا يعرف لها حكما خاصا بها، ولا يعلم حقيقة ما يسأل عنه، فلا يجيب عن السؤال ولا يحمل نفسه مسؤولية ما يفتي به. وهي كلمة تقال في المشكل من الأحكام والقضايا الكثيرة التي تحدث في حياة الناس. ليس المهم هذا المصطلح الفقهي الورع، المهم أننا نريد أن نذكّر بهذا المنهج الجميل الذي يترك القوس لباريها، ويعترف بأن الإنسان بشر لا يستطيع أن يعرف كل شيء، وأنه إذا عرف شيئا فقد غابت عنه أشياء. لو توقف رجال الدين في هذا العصر، وقالوا إنهم متوقفون عما لا يعرفون من شؤون الحياة الحادثة ومخترعاتها التي اخترعتها أمم غيرهم، كم سيربح رجال الدين من الوقار والاحترام قبل أن يفتوا بالتحريم ويجمعوا على ذلك لجهلهم بحقيقة ما يفتون به، كتحريم الصورة والظهور بالقنوات الفضائية وتحريم (الدشوش) في بدء عهدها، ولم يلبثوا إلا قليلا حتى صارت هذه المحرمات أداة من أدوات عملهم، وقل مثل ذلك في تحريم التعليم بوسائله الحديثة وتعليم المرأة خاصة. يقول أحد القضاة الشرعيين إنه أحصى أكثر من مئة محرم في سحابة سبعين عاما لم يبق منها محرم واحد لم يعمل به عندهم بعد أن عرفوه وألفوه. وآخر جدلهم بالتحريم قيادة المرأة للسيارة، وعملها لكسب رزقها واغتنائها عن العوز والفاقة، وجديد فتاواهم تحريم الابتعاث وهم يقرؤون الأثر (اطلبوا العلم ولو بالصين). لو توقف المخططون للمدن التي فرشت على أديم الصحراء القاحلة في هذه الطفرة العمرانية الهائلة عن تخطيطهم العشوائي وقالوا لا نعلم، لما وقعنا بما نحن فيه من تكدس وازدحام وعشوائيات أفسدت جمال المدن وأثقلت المال العام في تكاليف باهظة قد تبنى بها مدن أكبر مما يبنى ويهدم، والضحية المواطن والمدينة..أزيلت بعض المدن وأعيدت وأزيلت مرة أخرى، والسبب أننا لم نتوقف لنسأل من عنده علم وتجربة عن التخطيط العمراني الذي يعرفه العالم قبلنا بمئات السنين. لو توقف المسؤولون عن التربية والتعليم عن قناعتهم الشخصية وقالوا لا علم لنا فيما يحدث في العالم من تطور هائل في برامج التعليم، واستعانوا بخبرات أهل التجربة السابقة لما احتجنا أن نتحول في كل خمس سنوات من خطة تعليمية إلى أخرى، والنتيجة هي ما وصل إليه التعليم من وضع يحتاج النهوض منه إلى أضعاف ما صرف عليه، على الرغم من ضخامة ما صرف. كل ذلك من أجل أننا لم نتوقف عما لا نعرف ولم نعط الخبز لخبازه، لأننا نقرأ بالحرف المقلوب عن التعليم ووظيفته وغاياته، ونريد أن يفهم الطلاب معاني حروفنا المقلوبة. لو توقف المثقفون والمسوغون عن كيل الثناء عن كل عمل يسمعون عنه من دون أن يستشاروا فيه أو يعرفوا نجاحه أو فشله وتكون كلمتهم عدلا في حق من أحسن، ونقدا وتقويما في حق من أخطأ، لما وقعنا في ضباب كثيف عما يحدث عندنا وحولنا.