النميمة

آفةٌ تنفثُ الفرقةُ بين الناس، تقلق القلوب وتجلبُ الدمار لناقلها والعار لسامعها، تدفع ممارستها إلى التجسس الخسيس، بحثاً عما تنم به، إمعاناً في قطع المزيد من أرزاق الناس

آفةٌ تنفثُ الفرقةُ بين الناس، تقلق القلوب وتجلبُ الدمار لناقلها والعار لسامعها، تدفع ممارستها إلى التجسس الخسيس، بحثاً عما تنم به، إمعاناً في قطع المزيد من أرزاق الناس. تلك هي النميمة التي أجمع المسلمون على تحريمها، واتفقت الأمةُ على تجريمها، صاحبها ناقص الإيمان، وكما جاء في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم “لا يدخل الجنة نمام”. وكنت قد تحدثتُ في مقالة سابقة عن الغيبة.. ولعله من المنطق أن أوضح الفرق بين الغيبة والنميمة موضوع حديثي اليوم. وقد اُختلف فيهما، هل هما متغايرتان أم متحدتان، والراجح التغاير، وإن كان بينهما أوجه شبه. ذلك أن النميمة هي نقل حال شخص لغيره على وجه الإفساد بغير رضاه، سواء كان بعلمه أو بدون علمه. والغيبةُ كما ذكرت سابقاً: ذِكرُ المؤمن في غيبته بما لا يرضيه. وهنا امتازت النميمة (ويا له من امتياز!) بقصد الإفساد، ولا يشترط ذلك في الغيبة، وامتازت الغيبة (وبئس الامتياز) بكونها في غيبة المقول فيه، واشتراكاً فيما عدا ذلك. وكما قيل “كل نميمة غيبة، وليس كل غيبة نميمة”. فإن الإنسان قد يذكر عن غيره ما يكرهه، ولا إفساد فيه بينه وبين أحد، وهذا غيبة، وقد يذكرُ عن غيره ما يكرهه وفيه إفساد، وهذه غيبة ونميمة معاً.. كفانا الله شرهما. ومعنى النميمة لغةً: النمم أي رفع الحديث على وجه الإشاعة والإفساد، وقيل تزيين الكلام بالكذب. واصطلاحاً: نقلُ الحديث من قوم إلى قوم على وجه الإفساد والشر. أو كما عّرفها الإمامُ الغزالي بقوله: “إفشاء السر وهتك الستر عما يُكره كشفُه”. وقيل هي: التحريش بين الناس والسعي بينهم بالإفساد. ويأتي أمر السماء قاطعاً مانعاً جامعاً في سورة القلم، الآية العاشرة: “ولا تُطِعَ كلَّ حلافٍ مَّهِين هَمَّازٍ مشاءٍ بنميمٍ مَنَّاعٍ للخير معُتدٍ أثيم عُتُلًّ بعد ذلك زنيم”. ومشاء بينهم يعني الذي يمشي بين الناس ويحرش بينهم وينقل الحديث لفساد ذات البين. وقيل: اللُّمزة: النمام، وقال تعالى: (ويلٌ لكل هُمزَةٍ لَّمزة). وعن أبي الجوزاء قال: قلت لابن عباس من هؤلاء الذين بدأهم الله بالويل؟ قال: هم المشاؤون بالنميمة، المفرقون بين الأحبة، الباغون أكبر العيب. لقد كانت امرأة أبي لهب نمامة.. حمالةً للحديث، إفساداً بين الناس، ولهذا فهي حمالةُ الحطب.. وسميت النميمة حطباً لأنها تنشر العداوة بين الناس كما أن الحطب ينشر النار. ويقول الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم: “ألا أُنبئكم ما العضةُ؟ هي النميمة القالةُ بين الناس” والقالةُ كثرةُ القول وإيقاع الخصومة بين الناس. قال رجل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: يا أمير المؤمنين إحذر قاتل الثلاثة، قال: ويلك، من قاتل الثلاثة؟ قال: الرجل يأتي الإمام (الحاكم) بالحديث الكذب، فيقتلُ الإمام ذلك الرجل بحديث هذا الكذاب الذي ارتكب كبيرة قتل بها نفسه وصاحبه وإمامه. وليتقِ الله كل رجل له بالحاكم صلة تجيز للحاكم الاستماع إليه ثقةً فيه، وتصديقاً لولائه وإخلاصه. وللنميمة آثار مهلكة كثيرة، منها: -1 طريق موصلُ إلى النار . -2 تزكي نار العداوةِ بين المتآلفين. -3 تؤدي إلى قطع الأرزاق وربما الأعناق. -4 عارُ على قائلها وسامعها. -5 تفرق وتمزق المجتمعات الملتئمة. وللنميمة ثلاثة أقسام: - النميمة المحرمة.. وهي ما أسلفتُ الحديثَ عنها. ولكن القسم الثاني هو: النميمة الواجبة: وهي التي تكون للتحذير من شر واقع على إنسان ما، فيخُبرُ بذلك الشر ليحذره. وأخيراً النميمة المباحة: وهي إخبار الحاكم أو من له ولاية بأن فلاناً يسعى بما فيه مفسدة ضارة للبلاد والعباد. ومن أهم أسباب الوقوع في النميمة نشأةُ الفرد في بيئة دأبُها النميمة والوقيعةُ بين الناس فيقلدها ويتأثر بها. ويتنامى الأمر إذا لم يجد النمام من يردعه ويعيب عليه ما يقوم به، إذ لابد من إشعاره بفظاعة هذه المعصية وإبلاغه أنها من الكبائر، وتبصيره بالعواقب السيئة للنميمة والتي تؤذي الفرد والمجتمع. وقد يكون لوجود الفراغ في حياة بعض الأفراد علاقة بانصراف البعض منهم من ضعاف الإيمان والنفوس للتفرغ للحديث عن الآخرين وذكر مساوئهم. ولشديد الأسف أمست اليوم مواقع التواصل الاجتماعي بكل أنواعها مرتعاً خصباً لهذا الداء الفتاك، وصارت حطباً مواتياً لإشعال نار النميمة الحارقة. ولا يمكننا أن نضع اللوم على صناع ومخترعي هذه التقنيات التي كان الهدف منها في الأساس التواصل بأبعاده المفيدة والتي أسهمت في حفظ ملايين المعلومات ووضعها بين أنامل طالبيها حين يشاؤون وكيفما يشاؤون. فوفرت الوقت الثمين والجهد المهدور في البحث والتنقيب في بطون الكتب ومتون المراجع..ولكن أساء البعض استخدامها فحولها من نعمةٍ إلى نقمةٍ، فصار كمن يشتري عذابه بنقوده، ويبيع آخرته بوجوده. والعقلاء فقط هم من يدركون أن النار خلقت لننضج بها طعامنا، أو لتكون مصدر دفءٍ، لا لهباً نحرق به أوصالنا ونحرق به الآمنين دون خوف من الله أو حياءٍ من الناس.. بعدما ارتضوا لأنفسهم أن يكونوا من أصحاب الوجهين، كالحرباء يتلونون بحسب هوى النفس والمواقف.. فأمسوا عبيداً للدنيا. وحسب الفتى بتقى الرحمن من شرفٍ وما عبيدك يا دنيا بأشرافِ