الرأي

الاستغناء

فارس محمد عمر
ما أحلاك في مجالسنا ورسائلنا واتصالاتنا، فلا نطيق اجتماعا بدونك، ولا نطمئن إلى حديث لست فيه. وجودك يغنينا عن كل فن ويصرف أوقاتنا. بك يشد كثيرون الأعين ويلفتون الرقاب، ويثبتون أماكنهم ويكسبون متابعيهم، وبدونك تندفع آهات وحدتهم وتثقل لياليهم وتظلم أيامهم، يفقدون حججهم وتوقعاتهم وأحكامهم وسائر قدراتهم. ما أسلس انتقالك خفيفة سريعة بين هذا وذاك وهذه وتلك، فتصنع بك أخبار وقصص وتبدأ روابط وعلاقات وتختفي أخرى. حولك يهرول أفراد ويتحمس الشاب ومن شاب ويجتمع السوقة والخاصة، فتتشعب الاهتمامات وتتضاعف الاحتمالات وتتهافت التوصيات والنتائج. يا لحسن حظنا في ألفتنا بك، ويا لعظم أياديك علينا. تملئين الجماجم فلا يبقى بها موضع لكتاب ولا لذكرى ولا لتدبر، وتمسين مرجعا للأحداث والتحليلات والقرارات والضحكات. منك يشكل كثيرون شخصياتهم ويستقون كياناتهم. وتزداد المتعة عندما تتلونين وتتشكلين وتتضخمين فتهيمين مع عشاقك ويهيمون معك، حتى يصير القريب بعيدا والحبيب بغيضا والحقيقة سرابا. ترسمين على الوجوه ابتسامات الضباع وتغرسين في القلوب التشفي. وإذ بكلمات ذهبية تتجمع كالمزن من أصداء وعبق مؤلفات وخطابات ودروس وألسنة علماء وحكماء، فتهز وعيي وتنبهني وتبصرني أننا نحن الذين نزينك لأنفسنا، أن المقترن بك يا وليدة الكذب وأصل النميمة والدسيسة وشقيقة البهتان، والمدمن عليك يا أيتها الغيبة البشعة إنما يعلن نفسه جبانا وضيعا وجاهلا ضعيفا، لا كرامة ولا إيمان عنده حتى يرقى إلى حياة جميلة كافية مريحة هي الاستغناء في الأحوال والأعمال والمقال عما سوى مولانا جل جلاله، باليقين الحق أن كل حي وجماد وكلام، إن كان أحيانا سببا زائلا، فهو ليس الغاية أبدا.