العامة والرعاع والغوغاء يصنعون الواقع
في تاريخ البشرية الطويل الممتد ملايين السنوات عاش آلاف الملايين من البشر على الأرض حيوات مختلفة لكل فرد منهم حياته الخاصة، بتفصيلاتها الدقيقة، وبأفراحها وأتراحها، وبشقائها، وسعادتها، ولكل فرد منهم أفكاره، وتطلعاته، ثم ذهبوا بأفكارهم، وآمالهم، وأحلامهم، فكم عدد الذين ذكرهم التاريخ من هؤلاء الملايين؟
الخميس / 15 / ربيع الأول / 1435 هـ - 00:00 - الخميس 16 يناير 2014 00:00
في تاريخ البشرية الطويل الممتد ملايين السنوات عاش آلاف الملايين من البشر على الأرض حيوات مختلفة لكل فرد منهم حياته الخاصة، بتفصيلاتها الدقيقة، وبأفراحها وأتراحها، وبشقائها، وسعادتها، ولكل فرد منهم أفكاره، وتطلعاته، ثم ذهبوا بأفكارهم، وآمالهم، وأحلامهم، فكم عدد الذين ذكرهم التاريخ من هؤلاء الملايين؟ لقد قفز التاريخ حيوات الغالبية من أولئك الملايين، وضرب عنها صفْحًا كأن لم تكن، واختصر تلك الأمم بملايينها بذكر النخبة التي استطاعت أن تحجز لها مقعدا في قطار الخلود، النخبة التي ارتقت إلى مصاف الملوك أو القادة، أو علماء الدين، أو الفلاسفة، أو الأدباء، أو الشعراء، فتلك النخبة التي امتلكت السيف، أو القلم -وهما وسيلتا النفوذ في تلك المجتمعات الغابرة- مارست احتكار الكلام باسم الأمة، وباسم الشعب، وباسم الدين، وباسم الأدب، وباسم الشعر، وكان لها نفوذٌ بامتلاكها أداتي التأثير (السيف والقلم) استطاعت من خلاله المساهمة في صنع واقع مجتمعاتها آنذاك، وكان التاريخ المكتوب هو تاريخ تلك النخبة، فوصلت إلينا تراجمهم، مسجلة في كتب التاريخ العام، وكتب الطبقات، والتراجم، ووصلت إلينا آراؤهم وأفكارهم مدونة في كتب المؤلفين منهم، أو في كتب تلاميذهم وأنصارهم، وأما بقية الشعوب على اختلاف طبقاتهم فهم في نظر تلك النخبة، ونظر التاريخ بعد ذلك (عَوَام)، و(هَمَج) جمع هَمَجَةٍ، وهي ذباب صغير كالبعوض يسقط على وجوه الغنم والحُمُرِ وأَعينها شُبِّه به عامة الناس لصغر شأنهم، و(رَعَاع)، و(غَوغَاء) تشبيهًا لهم بالجراد أول ما ينبت جناحاه، و(سوقة) أي يسوقهم ملوكهم كما يشاؤون، طبقات مهمشة، تحركها النخبة كما تشاء؛ فتلقي بها النخبة الحاكمة وقودًا لمعاركها للسيطرة والتوسع، وتستخدمها النخبة المثقفة جمهورًا مهمته التصفيق لإنتاجها الثقافي، وقد عاشت تلك الطبقات من العامة والرعاع والغوغاء وماتت خارج التاريخ. ما الذي تغيَّر في العصر الحديث؟ لقد استجدت في العصر الحديث وسائل للتعبير عن الذات لم تكن موجودة في العصور الغابرة ساهمت في توسيع دائرة المؤثرين في المجتمع، فنشأت الصحف والمجلات فازدادت النخبة المؤثرة؛ إذ أصبح لكتاب تلك الصحف والمجلات، ومحرريها وسيلة يعبرون فيها عن رؤاهم وأفكارهم مما أكسبهم نفوذًا في المجتمع، وضمن لهم المساهمة في صنع واقعه، ثم اخترع المذياع ومن بعده التلفزيون فتوسعت دائرة النخبة توسعًا جديدًا، والتحق بطبقة أصحاب النفوذ في المجتمع الممثلون، والمغنون، ولاعبو الكرة؛ وتحولوا نجومًا لها جماهير غفيرة تتابع أخبارهم، وتقتدي بهم، لكن مع كل هذا التوسع في دائرة المؤثرين في المجتمع إلا أنه بقيت الغالبية من الشعوب في طبقات مهمشة بعيدة عن التأثير حتى إذا قارب القرن العشرين على نهايته فإذا هو يأذن بحقبة جديدة في حياة البشرية؛ حقبة يكون كل فرد من أفراد الشعب -مهما كان مستواه العلمي، وتحصيله الثقافي، ومكانته الاجتماعية- لديه المقدرة على المساهمة في التأثير في مجتمعه، وذلك من خلال الاختراع الجديد (الانترنت)؛ لقد انتهى مفهوم (النخبة) التي تحتكر التأثير في حياة الشعوب، وأصبح كل فرد من أفراد الشعب يساهم في صناعة واقع مجتمعه الذي يعيش فيه، فلأول مرة في تاريخ البشرية ينتهي عصر احتكار وسائل التأثير في الشعوب، فلم تعد حكرًا على النخبة الحاكمة أو النخبة المثقفة، إذ أصبح الإعلام الجديد وسيلة مشاعة لكل من يريد أن يساهم في صناعة واقع مجتمعه، فكل فرد لديه صحيفته الخاصة يكتب فيها ما يشاء، ويعلق فيها على كل صغيرة وكبيرة من قضايا مجتمعه، ولديه تلفزيونه الخاص يصور فيه برنامجه الخاص، ويجد في فضاء هذا الإعلام الجديد ما يشاء من الأفكار، والآراء، والأصدقاء المتفقين معه في الفكر أو النشاط السياسي أو الفكري، فيا أيها المفكرون والمثقفون والكتاب، ويا أيها الساسة ويا علماء الدين تواضعوا قليلًا فلم تعد الكلمة المؤثرة حكرًا عليكم، ولم تعودوا وحدكم صُنَّاع واقع مجتمعكم.