من رحم القمع يولد جيل مشوه فكرياً
من أشد الأضرار الفكرية التي تكون كالنار التي تأكل الأخضر واليابس ولا تثمر إلا جمرا حارقا تحت رماد ربما يخرج منها شرار ينتج نارا حارقة لكل ما تواجهه في طريقها هو القمع الفكري. وقد تأتي النار على غفلة في وقت غير متوقع فيصعب تلافيها ومواجهتها.
السبت / 5 / جمادى الآخرة / 1435 هـ - 00:00 - السبت 5 أبريل 2014 00:00
من أشد الأضرار الفكرية التي تكون كالنار التي تأكل الأخضر واليابس ولا تثمر إلا جمرا حارقا تحت رماد ربما يخرج منها شرار ينتج نارا حارقة لكل ما تواجهه في طريقها هو القمع الفكري. وقد تأتي النار على غفلة في وقت غير متوقع فيصعب تلافيها ومواجهتها.
إن القمع الفكري يأتي في ظل مفاهيم خاطئة لمبدأ حق الإشراف والرعاية، فيتم التعسف في استعمال ذلك الحق في مواجهة الآخرين وردعهم ومنعهم من ممارسة حقهم في التعبير وإبداء الرأي.
لا شك أن حرية التعبير حق مشروع لكل الناس متى كان التعبير متفقا مع حدود ومعايير حرية التعبير وإبداء الرأي، فيكون في إطار المبادئ والقيم الأخلاقية ولا يخرج عن ذلك.
لكن بكل أسف هناك من يرى أن مكانته الاجتماعية تتيح له التصدي ومنع الآخرين من حرية التعبير. فالأب في بيته حينما يمارس القمع لأفراد أسرته ويتصدى لهم فيصادر كل ما يبدونه من آراء ويعيشون تحت سيطرة هذا القمع وفي ظل جبروت رب الأسرة ويستسلمون على طريقة مكره أخاك لا بطل،
فلا يرون إلا ما يرى الأب ولا يحبون إلا ما يحب ولا يكرهون إلا ما يكره. فما عليهم إلا التأمين بعد قوله والتسليم، فيتحاشون مواجهة الأب ومعارضته. تجنباً لقمعه وتلافيا لحدته وجبروته. وليس قناعة بما يتخذه بل إنهم في حقيقة الأمر يبطنون له الكراهة وأكبر أمنياتهم أن يعطيهم والدهم حرية الرأي ليجدوا فرصة في التعبير عن مكنونات ضمائرهم. إلى حد أن بعضهم يتمنى إنهاء هذا الوضع حتى لو كان بفقدان الأب. فليس أصعب على المرء من أن يعيش مستعمراً فكرياً، قد يقبل بالجوع والظمأ لكن يرفض القمع الفكري ولو في داخله كأضعف الإيمان!
الأب حين يمارس القمع ربما لم يكن يريد إرهاب أسرته فكريا وتعنيفهم، ولكنه يريد ترسيخ مبدأ احترام الكبير، فلا تكون تلك المعارضة سببا لإضعاف دور الأب في الأسرة وتفرق بينهم، فهو الأجدر في تقدير الأمور وسبر غورها ومعرفة أسرارها ونتائجها.
وقس على ذلك ما يحدث من سيطرة المعلم في فصله وممارسة إسكات طلابه وعدم قبول معارضتهم له في أي كلام يقوله. وكذلك المدير في إدارته والذي لا يسمح لأحد أن يبدي رأيا معارضا له أو يوضح له خطأ حدث في إدارته لأنه يرى أنه لم يصل إلى هذا المنصب إلا وهو أكفأ من يعمل في هذه الإدارة وأجدرهم بمعرفة الأمور وتقدير نتائجها. ويلحق بذلك ويقاس عليه ما يحدث من المسؤول في مركزه أو الرئيس في رئاسته. فيرون أن مناصبهم ومكانتهم تحول دون معارضتهم. وكل هؤلاء لا يجدون سندا شرعيا ولا نظامياً ولا عقلانيا يؤيدهم في هذا الاتجاه.
إن ما يقوم به الأب والمعلم والمدير والوزير والرئيس من قمع للرأي، كلها أمور تجعل الأشخاص الذين يقعون تحت هذا القمع أشخاصا مشوهين فكريا، يظهرون شيئا ويخفون أشياء، ويعيشون في تناقض فاضح وانفصام فكري واضح. فيتضرر المجتمع من وجودهم لأنهم لم يعرفوا حرية التعبير ولم يمارسوا المناقشة السليمة. فإذا أتيحت لهم الفرصة كانوا مشوهين فكريا فيحاولون فرض آرائهم بغض النظر عن كونها صحيحة أو خاطئة فالمهم عندهم المعارضة وحسب، لأنهم كانوا محرومين منها، فتجدهم متطرفين في الآراء وعلى النقيض دائما مع من حولهم. وسبب ذلك كان من رب أسرة جاهل لم يعرف دوره في الحياة، ومن معلم غير كفء لم يمارس دور المعلم الحقيقي في خلق شخصية مستقلة لطلابه، ومن مدير أناني لم يدرك حقوق مرؤوسيه في مناقشته في آرائه، ومن مسؤول متعالي جعل الدائرة مغلقة أمام جميع آراء وأفكار منسوبيها فلا يرى أنها تتسع إلا لرأيه ولا تصلح ولا تنهض إلا بفكره. ومن رئيس لم يبق له إلا أن يقول أنا ربكم الأعلى.
إن رب الأسرة والمعلم والمدير والوزير والرئيس كلهم لا شك ولا ريب أن لهم حق التوجيه والإشراف لكل من يقع تحت إشرافهم ورعايتهم وإدارتهم، بل ليس هذا الحق وحسب بل لهم تأديب من يريد الخروج والجنوح عن طريق الصواب بفكر منحرف أو رأي أخرق يضر بمن حوله.
وفي المقابل فإن حق إبداء الرأي ولو كان مخالفا هو حق ثابت شرعا وعقلا. فالشريعة تدلنا على هذا الحق بل وتجعله قاعدة لا حيدة عنها وأصل من الأصول التي يقوم عليها نظام الأسرة ونظام المجتمع والدولة في الإسلام. فالله سبحانه وتعالى يقول:[ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْر] وقال الله عزّ وجل:[ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ] .
لقد مارس النبي صلى الله عليه وسلم في بيته ومجتمعه مع أصحابه رضى الله تعالى عنهم الشورى ومنحهم فرصة إبداء الرأي ولم يمنعهم منه.
والخلفاء الراشدون رضي الله عنهم كانت ممارستهم واضحة في السماح للآخرين بإبداء الرأي المخالف والمعارض دون أن يستخدموا سلطتهم في القمع. لكن ذلك كله كان محكوما بالمبادئ والقيم الأخلاقية والأصول الشرعية في عدم التعسف في استعمال هذا الحق، أو الخروج عن السبيل الصحيح في وضع الأمور في مواضعها الصحيحة، ولا بد أن يبقى للأب والمعلم والمسؤول والرئيس واجب الطاعة والاحترام [أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ] وبذلك تستقيم الحياة ويتم ضمان حق التعبير في الآراء فالشريعة تقرر التوازن في الحياة كلها.