مواقف أمريكا: الإدانة والتحليل السياسي

لا يزال الحديث العربي عن مواقف أمريكا يتداخل فيه الهجاء والإدانة بالتحليل السياسي

لا يزال الحديث العربي عن مواقف أمريكا يتداخل فيه الهجاء والإدانة بالتحليل السياسي. تفرض شيطنة أمريكا على الجميع التبرؤ من دعمها، والادعاء بأنها تقف مع الخصم، ومع التحولات الحالية في المنطقة العربية أصبح كل طرف إسلامي أو غير إسلامي يدعي أن أمريكا دعمت الآخر في الصراعات الداخلية عبر الحوارات والسجالات الإعلامية. لا أحد يريد الاعتراف بما هو معلن من المواقف السياسية الأمريكية.. وإنما ينقلك إلى وجود مواقف في الخفاء، ليخترع كل طرف الاستنتاجات التي يحكمها مزاج المرحلة بلا أدلة حقيقية. وإذا وجد أن المواقف المعلنة، والتصريحات الرسمية تناقض تماما ما يقوله، فإنه يبدأ باستعمال تعبيرات هلامية بالحديث عن الغطاء السياسي، والدعم غير المباشر، والتوجه غير المعلن، وإذا بدأ الموقف في حالات معينة جيدا وواقفا مع حق الشعوب قال لك هي مجرد تمثيلية. من أسباب محاولة التظاهر العربي بخصومة أمريكا لتياراتهم أو أنظمتهم أمام الشارع، وأن أمريكا دائما ضدهم، حتى وإن ثبت أنها دعمتهم في أكثر من حدث سياسي، هو الاعتقاد بأن هذا الادعاء ما زال مربحا في العالم العربي مع أن هذا الجيل ليس هو جيل الخمسينات، لكن هذه اللغة هي امتداد متوارث منذ تلك المرحلة في الخطاب القومي والإسلامي بلا تحسن يذكر. كثير من الأنظمة العربية منذ أكثر من نصف قرن تاجرت بدعوى خصومة أمريكا لها، مع أن الواقع أثبت في حالات كثيرة أنها ليست كذلك، وأن التفاصيل كشفت عن حالات دعم، وربما يتذكر كثيرون الصدمة التي أحدثها كتاب لعبة الأمم لكوبلاند في زمنه. التيار الإسلامي من أكثر التيارات شكوى من عداوة أمريكا له، ووقوفها ضده حتى وإن جاء بمسار ديمقراطي، هذه الدعوى تأكدت له بعد الحالة الجزائرية في التسعينات والموقف الأمريكي والفرنسي في دعم الانقلابيين. مقابل ذلك جاءت التجربة التركية منذ أكثر من عشر سنوات بعد عام 2002م . في مرحلة الحرب على الإرهاب، والضغط على دول إسلامية للتغيير السياسي جاءت تجربة حزب العدالة والتنمية بقيادة أردوغان الذي تجاوز فيه أخطاء من قبله، وحقق نجاحات اقتصادية مثيرة خلال عقد. كانت تجربة حزب العدالة والتنمية يمكن أن تنتهي سريعا، كما انتهت تجربة حزب الرفاه مع أربكان القصيرة في عام 1997 مع ضغوط الجيش وإجباره على الاستقالة. لقد كان الموقف الأمريكي في العقد الماضي مهما لمنع الجيش التركي من التحرك ضده وإجهاض التجربة، واستقبل أردوغان في البيت الأبيض. المفارقة التي ربما نسيها البعض الآن .. أن الرؤية المحافظة الإسلامية في العالم العربي حينها ترى أن هذا الدعم يأتي في سياق مؤامرة أمريكية لتسويق الإسلام المستنير، مع تهويلات ضخمة ضد الإسلام العصراني أو الأمريكاني! ليست المشكلة في التعبير عن الرأي حوال مواقف أمريكا وسياستها وإدانة ذلك، لكن الأزمة تبدو عندما تصبح هذه الممارسة لغة التحليلات السياسية في الكتابات والبرامج. يبدو النقد السياسي هجاء عندما لا توجد معايير محددة ومستقرة، وعندما تتداخل الانطباعات والآراء بالمعلومات، فيتحول هذا الخطاب إلى عملية استغباء جماعي مزمن تفرضه يوميا نخب إعلامية وسياسية في عالمنا العربي. فأمريكا تصبح في الوقت نفسه هي التي صنعت الربيع العربي وهي وراء الفوضى في المنطقة، ولتأكيد ذلك يستطيع اختراع الأدلة من أي سطر في كتاب أومقالة أو مقطع في برنامج منذ سنوات طويلة، وفي الوقت نفسه وبالذهنية ذاتها تصبح أمريكا هي الخصم للربيع وهي التي تتآمر عليه لإفساده. هذه الخيالات تنمو لعدم وعيها بطبيعة السياسة التي لا توجد فيها سياسات ومواقف ثابتة مطلقا، فهي تتغير وفقا لتبدل الأحوال مع تطور الأحداث نفسها، ولهذا ظهرت العديد من المواقف التي تبدو متناقضة .. تقدم أو تراجع حسب التطورات على الأرض. كثير من اللوم والنقد للسياسة الأمريكية يأتي بسبب الخلط العربي في رؤية قدراتها، فمرة تبدو لديهم كأنها قادرة على كل شيء، بمنع هذا الحدث أو ذاك، وأنها المحرك الأول للأحداث.. ومرة تصبح في نظرهم نمرا من ورق، وأنها هزمت وتمرغ جنودها بالتراب هنا وهناك، وفقا للحاجة اللحظية أثناء تطريز المقالات أو الصراخ في البرامج.