رصاصة كردية تفجر نعرات طائفية في العراق
في صبيحة 22 مارس 2014 انطلقت رصاصة من مسدس ضابط كردي في فوج الرئاسة وسط بغداد لتستقر في رأس الصحفي محمد بديوي الشمري، معلنة بدء مرحلة خطيرة من الصراع السياسي (العربي-الكردي) في عراق ما بعد 2003
السبت / 28 / جمادى الأولى / 1435 هـ - 00:30 - السبت 29 مارس 2014 00:30
في صبيحة 22 مارس 2014 انطلقت رصاصة من مسدس ضابط كردي في فوج الرئاسة وسط بغداد لتستقر في رأس الصحفي محمد بديوي الشمري، معلنة بدء مرحلة خطيرة من الصراع السياسي (العربي-الكردي) في عراق ما بعد 2003. وبالرغم من أن هذا الصراع ليس بجديد، سيما بعد أن اتخذ منحىً جديداً بعد تغيير النظام في العراق مع بروز أزمة المناطق المتنازع عليها وعزوف الحكومة المركزية عن تطبيق المادة 140 من الدستور العراقي الخاصة بتطبيع الأوضاع في محافظة كركوك (الغنية بالنفط) وإجراء الاستفتاء فيها لتقرير مصيرها، إلا أن هذا الحادث شكل انعطافة خطيرة أيقظت النعرات القومية التي كانت بعض الأطراف تحاول إخفاءها تحت عباءة الوطنية.
نعرة عنصرية
للمرة الأولى تقدم بعض الشخصيات المعروفة في الوسط الإعلامي والثقافي وحتى السياسي على تبادل (الشتائم العنصرية) بشكل علني، وعلى صفحات (الفيس بوك)، فعضو مجلس نقابة الصحفيين العراقيين فراس الحمداني -على سبيل المثال-، فاجأ الجميع بمقاله المعنون (استراتيجية التخلص من الأكراد)، والكاتب الصحفي المعروف هادي جلو مرعي كتب على صفحته في (الفيس بوك) بعد ساعات من مقتل الصحفي الشمري عبارة تقول (يجب أن ندوس على رؤوس الأكراد)، ناهيك عن سيل الشتائم الذي انطلق على ألسنة المئات بل الآلاف من الناشطين والإعلاميين!
موعد مع الموت
الصحفي القتيل (محمد بديوي الشمري) يعمل أستاذاً في كلية الإعلام بالجامعة المستنصرية، ومديراً لمكتب إذاعة العراق الحر في بغداد، والمكتب يقع في مجمع الرئاسات بمنطقة الجادرية وسط بغداد. وفي يوم 22 مارس 2014 كان الشمري على موعد مع الموت، ففي صباح ذلك اليوم غادر منزله متوجها إلى مكتبه ولدى وصوله إلى البوابة الخارجية (وفقاً للرواية الأولى) منعه حرس الرئاسة (وجميعهم من أبناء القومية الكردية نظراً لكون الرئيس العراقي جلال طالباني كردياً) من الدخول لسبب غير معروف، فتشاجر معهم وحصل تبادل للشتائم (وقيل عراك بالأيدي) انتهى بقيام ضابط كردي برتبة ملازم أول يدعى أحمد إبراهيم بإطلاق النار على رأس الشمري من مسدسه الشخصي فأرداه قتيلاً. والرواية الثانية تقول إن الشمري جاء بسيارته وأوقفها في الطابور بانتظار دوره في التفتيش، ومن ثم الدخول إلى مكتبه في مجمع الرئاسات، وفي غضون ذلك جاءت سيارة تقل الضابط الكردي أحمد إبراهيم الذي أراد الدخول إلى مقر عمله في المجمع، فحصل تزاحم عند البوابة بين الاثنين تطور سريعا إلى تبادل للشتائم وعراك بالأيدي انتهى بمقتل الشمري برصاصة في رأسه. وهاتان الروايتان جاءتا على ألسنة أشخاص عرب، وثمة رواية ثالثة على لسان ضابط كردي رفض الكشف عن اسمه، قال إن الشمري استاء من تأخيره في طابور التفتيش، فأطلق سيلاً من الشتائم العنصرية بحق الشعب الكردي ورئيس الجمهورية (الذي يعتبره الأكراد خطاً أحمر)، ما استفز الضابط أحمد إبراهيم الذي رد عليه لفظيا، إلا أن الشمري شتم عرض الضابط وحاول خطف إحدى البنادق للانقضاض على الضابط، فما كان من هذا إلا أن أطلق الرصاص عليه فأرداه قتيلاً.
الدم بالدم
انتشر الخبر عبر كافة الفضائيات ووكالات الأخبار وشبكات التواصل الاجتماعي خلال دقائق كالنار في الهشيم، ولم تكد تمر ساعة على الحادث حتى غص موقع الجريمة بالحشود الغاضبة المطالبة بتسليم الضابط الكردي، وكان من بين من سارعوا إلى الحضور والتواجد بين الحشود رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي ونقيب الصحفيين العراقيين المقرب منه مؤيد اللامي. المالكي بدا أمام الكاميرات غاضباً ومستاءا، ومن موقع الحدث قال جملته التي أثارت جدلاً كبيراً في الأوساط السياسية (أنا وليّ الدم، والدم بالدم). عضو مجلس النواب العراقي والقيادي في الحزب الديمقراطي الكردستاني الذي يتزعمه مسعود بارزاني الدكتور حميد عادل بافي كان من بين القادة الكرد الذين استفزتهم تصريحات المالكي إلى أبعد الحدود. فقال في تصريح صحفي «نعزي عائلة الصحفي الشهيد محمد بديوي وكافة أبناء الشعب العراقي بهذا الحادث الأليم، ونؤيد عرض القضية على المحكمة لبيان حقيقتها وملابساتها، لأنه لا بد للمحكمة أن تتوصل إلى الحقيقة فيما لو كان القتل متعمدا أم حادثاً عرضيا، أما بالنسبة لممارسات وتصرفات وتصريحات بعض المسؤولين بعد هذه الحادثة فأرى أنها في قمة الجاهلية والهمجية، وهذه الممارسات كلها تعد جريمة حسب الدستور العراقي باعتبارها تمييزا عنصريا يهدد السلم الأهلي في العراق». وبين أنه «لم يعد ممكناً أن يكون هناك تعايش بين عقليتين مختلفتين، عقلية متحضرة مدنية وعقلية همجية جاهلية غير ملتزمة بالدستور، وأرى أن ممارسات كبار المسؤولين بعد هذا الحادث تعد استهتارا بالقانون واستهانة بمشاعر الشعب العراقي بكافة مكوناته وبالدم العراقي». وأشار إلى أن «استغلال هذه القضية لأغراض انتخابية هو قمة الانحطاط الأخلاقي، لذلك ندين ونستنكر ما صدر من بعض كبار المسؤولين العراقيين، ونرى أنه لا بد من إعادة النظر في أصول وأسس نظام الحكم في العراق، فهذا الحكم الفاسد لا يمكن أن يدوم». ودعا بافي شعب كردستان إلى إعادة النظر في العلاقة مع بغداد، مشدداً على «ضرورة عرض المسألة على الأمم المتحدة لإجراء استفتاء لشعب كردستان وتقرير مصيره ومعرفة هل يريدون العيش مع هذه العقلية الحاكمة في بغداد أم يريدون شكلا آخر لتنظيم العلاقة بين الإقليم والسلطة الحاكمة في بغداد». وتابع «نحن نحترم كافة مكونات الشعب العراقي لكن بالنسبة للحكم أرى أنه حكم فاسد وغير منضبط، وكنت أتمنى أن يحضر هؤلاء الذين حضروا في مكان الحادث، إلى ساحات الاعتصام في الفلوجة والرمادي والموصل وفي كربلاء عندما قتل مدرب النادي محمد عباس وعندما قتل هادي المهدي لانتقاده مسؤولا في الحكومة العراقية». وأشار إلى «أن هناك إرهاباً من قبل النظام الحاكم في بغداد ضد الشعب العراقي ولا يمكن القبول بهذا الإرهاب الفكري والعسكري». وأضاف «لا بد أن نقبل بأحكام المحكمة في كل هذه القضايا وكنت أتمنى أن يكون هؤلاء حريصين على إحالة كل من له يد في قتل العراقيين إلى المحكمة لتقول كلمتها في الذين تلطخت أيديهم بدماء العراقيين الأبرياء».
موقف كردي موحد
لعل الحادثة كانت من بين المناسبات القليلة التي توحدت فيها آراء وتوجهات سلطة إقليم كردستان والمعارضة الكردية باعتبارها قضية قومية، إذ اتهم عضو مجلس النواب رئيس كتلة التغيير الكردستانية لطيف مصطفى أمين رئيس الوزراء نوري المالكي باستغلال قضية مقتل الصحفي الشمري انتخابيا، فضلا عن إثارة النعرة القومية. وقال «إن المالكي وقناة العراقية لعبا دوراً غير جيد عندما قاموا بتصوير المسألة كأنها صراع قومي بين الكرد والعرب»، مبينا أن «جريمة مقتل بديوي جريمة جنائية اعتيادية، والقضاء هو الذي يأخذ مجراه لمحاسبة الجاني». وأوضح أنه «عندما قال المالكي (الدم بالدم) هذا يعكس حكما مسبقا وربما يكون القضاء لديه كلمة أخرى ونحن نحترم قراره «، مشيرا إلى أن «بعض القنوات الفضائية لعبت دورا سيئا جداً وأرادت من ذلك تعكير صفو السلم المجتمعي لغرض الدعاية الانتخابية والحزبية».
شرارة الفتنة
الصراع السياسي العربي الكردي ليس بجديد، فملفاته تعددت بين أزمة المناطق المتنازع عليها بين الحكومة المركزية وحكومة إقليم كردستان، وبين أزمة النفط التي شهدت تصعيداً مؤخراً بعد اتهام الحكومة المركزية لحكومة الإقليم بتصدير النفط عبر الأراضي التركية دون موافقتها، وبين ملف الموازنة المالية للعام الحالي، والتي لم يتم إقرارها حتى الآن بسبب رفض الحكومة المركزية تخصيص نسبة 17% منها لإقليم كردستان. ولعل حادثة الشمري كانت الشرارة التي أيقظت كل تلك الملفات دفعة واحدة، وأسهمت في تأجيج الصراع المؤجل بين المركز والإقليم. فهل كان السبب في غضب حكومة المالكي هذه المرة هو كون القاتل كرديا؟ أم أن هناك أسبابا أخرى لم تفصح عنها أية جهة؟ هذا ما ستخبرنا به التطورات المقبلة.