الشعر والبداوة

حينما أنشأ بشار بن برد قصيدته الرائية التي مطلعها:

حينما أنشأ بشار بن برد قصيدته الرائية التي مطلعها: بَكِّرَا صَاحِبَيَّ قَبْلَ الهَجِيرِ إِنَّ هَذَا النَّجَاحَ فِي التَّبْكِيرِ قيل له: يا أبا معاذ لو وضعت مكان “إن هذا النجاح في التبكير”، “بَكِّرَا فَالنّجاح في التَّبكيرِ”، كان أحسن، فقال بشار: إنما بنيتها أعرابية وحشية فقلت: “إن ذاك النجاح في التبكير”، كما يقول الأعراب البدويون، ولو قلت: “بكِّرا فالنجاح..”، كان هذا من كلام المولدين، ولا يشبه ذاك الكلام، ولا يدخل في معنى القصيدة”. ولأمر ما قرن العرب الشعر بالبداوة والبرية، وأنشؤوا في ذلك أخبارا يرقى أقدمها إلى العصور الأولى للأدب العربي، ولطالما احتفى النقاد العرب بشعر البدو الأعراب، وكأنهم يرون أنه كلما داخلت البداوة الشعر كان ذلك أقرب إلى بئره الأولى، وكان أدنى إلى طبيعته، وليس بخاف، فيما أخذ به القوم، أنهم ألقوا على الشعر والشاعر أردية الأعرابية والبداوة، فالقصيدة وحشية نافرة طريدة، والشاعر فارس يصادي، إذ يَجِدُّ في طلابها، سربا من الوحش نُزَّعَا، واستهجنوا من الشعر ما كان حضريا مولدا، وحين صيغت نظرية عمود الشعر رأى واضعوها القصيدة العربية الأعرابية، ودفعوا عن أصول تلك النظرية ما سواها، فالذي رفع شعر البحتري عند الناقد الآمدي أنه أعرابي الشعر مطبوع وعلى مذهب الأوائل. كلما تقدم بنا الزمن وجنح الشعر عن الأعرابية يأتي من يرده إليها، ولقد اعتدنا أن نردد خلف المتنبي قوله: حسن الحضارة مجلوب بتطرية وفي البداوة حسن غير مجلوب البداوة عند العرب هي الطبيعي إزاء الحضارة التي هي الصناعي، وجمال البادية خصيصة فيه، أما الجمال الحضري فمجلوب بتطرية، على أن هذا المعنى الذي يقرن الشعر بالبدوي والبرِّي والوحشي نمسك بآثار له في آداب العالم، ويكفي أن نعرف أن الحركة الرومنطيقية عادت بالشعر إلى أصوله الرعوية، وأضحى الشعر إلف الريف والقرية والبرِّيَّة، ومن قبل الرومنطيقيين تشوَّف الباخرزي، في القرن الخامس الهجري، إلى شعر بدوي يباين ما عليه الشعر في عصره، فنظر في شعر الجزيرة العربية، آنئذ، وتخير طائفة صالحة منه، ثم افتتح كتابه بكلمات كلهن شوق وحنين إلى البدو وشعرهم وثقافتهم.