رحلة «جاسوس نزاهة» مع بلاغ مسافته ألف كيلومتر

لم يكن مبلغ الـ15 ألف ريال الذي حصلت عليه مكافأة من «نزاهة» بعد ثبوت صحة بلاغي هو السبب في اختياري التبليغ المباشر، بل الرغبة في رصد إجراءات هذه الإدارة الحكومية التي بات اسمها المختصر يشعل الجدل في المجالس،

لم يكن مبلغ الـ15 ألف ريال الذي حصلت عليه مكافأة من «نزاهة» بعد ثبوت صحة بلاغي هو السبب في اختياري التبليغ المباشر، بل الرغبة في رصد إجراءات هذه الإدارة الحكومية التي بات اسمها المختصر يشعل الجدل في المجالس، خاصة حين يصلها بلاغ يبعد عن إدارتها الرئيسة في العاصمة نحو ألف كلم. من حائل، وعبر الانترنت، تقدمت بالبلاغ عن طريق موقع «نزاهة»، وانتظرت خمسة أشهر، قبل أن يأتيني الاتصال: أنا موظف هيئة مكافحة الفساد. جاء المحقق بعدها بأيام ليجوس في الإدارة الحكومية التي أبلغت عنها، وبدا كأي موظف فيها لولا أمران ميزاه عن بقية الموظفين: رفضه شرب الماء والشاي في المكتب، وأن في كل خطوة يقطعها بين مكتب وآخر بدا كأن زلزالاً يضرب المكان. على مدى ثلاثة أيام، لم تنقطع اتصالات المحقق معي، إذ كان يغيب ليعود ويسألني عن بعض تفاصيل الوثائق التي قدمتها، أما «المجالس الحائلية» فراحت تتداول الإشاعات حول ذلك الجاسوس (أو «الدنيفسي» بلغة أهالي المنطقة) الذي أبلغ عن أبناء عمومته. ولم يخل الأمر من آخرين كانوا يشيدون به ويدافعون عن مبادرته. (12)    
----------------------------------------------------------------
 
 
رغم أنه بدا كأي موظف في تلك الدائرة الحكومية في حائل، يتنقل بين المكاتب بسحنته السمراء وشماغه الذي ترك لطرفيه حرية الانسدال من الجانبين، إلا أن أمرين ميزاه عن بقية الموظفين: رفضه شرب الماء والشاي في المكتب، وأن في كل خطوة يقطعها بين مكتب وآخر بدا كأن زلزالاً يضرب المكان.
كان الرجل في منتصف الأربعين من عمره هو ممثل هيئة مكافحة الفساد «نزاهة»، وقد قدم من الرياض صباحا ليحقق في بلاغ تقدمت به أنا حول فساد هذه الإدارة الحكومية الصغيرة التي يحظر الكشف عن اسمها لأسباب قضائية. لم يكن مبلغ الـ15 ألف ريال الذي حصلت عليه مكافأة من «نزاهة» بعد ثبوت صحة بلاغي هو السبب في اختياري التبليغ المباشر، بل الرغبة في رصد إجراءات هذه الإدارة الحكومية الذي بات اسمها المختصر يشعل الجدل في المجالس، خاصة حين يصلها بلاغ يبعد عن إدارتها الرئيسية في العاصمة نحو ألف كلم. كنت تقدمت بالبلاغ عن طريق موقع «نزاهة» على الانترنت، وانتظرت خمسة أشهر، قبل أن يأتيني الاتصال: أنا موظف هيئة مكافحة الفساد. طلب مني المتحدث على الطرف الآخر الاحتفاظ بكل الوثائق المتعلقة بالقضية، وإرسالها له على بريده الرسمي، وعاد الصمت شهرا كاملا، حتى عاود محقق «نزاهة» الاتصال مؤكدا قدومه إلى حائل في اليوم التالي. في الصباح، وقف محقق «نزاهة» قبالة الدائرة الحكومية يراقب قدوم الموظفين، قبل أن يتوجه إلى مدير الدائرة ويحقق معه. لا أعرف طبيعة الحوار الذي دار بين الاثنين، غير أن أحدهما كان يمتلك وثائق رسمية أعرفها، وعلى ذلك توقعت أن الآخر سيواجه موقفا عصيبا. على مدى ثلاثة أيام، كان المحقق يتنقل بين مكاتب الموظفين، ولم تنقطع اتصالاته معي، إذ كان يغيب ليعود ويسألني عن بعض تفاصيل الوثائق التي قدمتها، أما مصادري من داخل الدائرة فكانت تزودني بطريقة تعامله مع من يحقق معهم. انتشرت القصة في حائل، وبدا لافتا أن الكثير من الموظفين انشغلوا أكثر بالبحث عن هوية مقدم البلاغ، وكأنه خائن يستحق العقاب، أما المجالس فراحت تتداول الإشاعات حول ذلك الجاسوس (أو «الدنيفسي» بلغة أهالي المنطقة) الذي أبلغ عن أبناء عمومته. ولم يخل الأمر من آخرين كانوا يشيدون به ويدافعون عن مبادرته. بعد نهاية دوام كل يوم، كنت ألتقي المحقق بعيدا عن مقر الدائرة الحكومية حيث يطلعني على نتائج عامة لتحقيقه ويستفسر عن بعض التفاصيل، وكأننا نتقاسم شقاء يوم من التحقيق والبحث، ونعد العدة للغد. لم يقبل محقق «نزاهة» دعوتي له لضيافته، كما رفض أي خدمة قدمها موظفو الجهة التي يحقق فيها، وضمنها القهوة والشاي وحتى الماء، وعندما يرغب، يلجأ إلى سندويتشات «التصبيرة» التي يحصل عليها من البقالات المجاورة والمشروبات، ثم يكمل عمله. كل ورقة صغيرة أو كبيرة يطلبها، يحصل على نسخة منها يحفظها في ملف أخذ يكبر يوما بيوم، ويضيف إلى هذا الملف أية مخالفات جديدة يكتشفها أثناء بحثه في القضية الرئيسية، وأثناء تنقله بين المكاتب بملفه الثقيل كانت أعين الموظفين تلاحقه بفضول. وضعت التحقيقات أوزارها بعد ثلاثة أيام، ومضى محقق »نزاهة« يحمل الغنائم الورقية، وكنت أنا على موعد بعد شهرين من مغادرته مع غنيمة لم تكن في الحسبان، إذ وردني اتصال يسأل عن رقم حسابي البنكي، وبعد عشرة أيام وصلتني رسالة نصية تقول: الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد تشكركم وتحيطكم علما أنه تم إيداع مبلغ 15 ألف ريال في حسابكم مكافأة لكم لتقديمكم البلاغ رقم (...) الذي ثبتت صحته، والهيئة تتمنى تواصلكم معها مستقبلا للإبلاغ عن أي حالة فساد أو قصور في الخدمات. اليوم، تتولى جهات أخرى التحقيق في القضية بعد أن انتهت منها «نزاهة»، وما بدا واضحا لي أنها انتظرت طوال الأعوام الماضية ولم يكن من الممكن تصعيدها قبل نشوء هيئة مكافحة الفساد، ذلك لأسباب كثيرة ليس آخرها العلاقات القبلية في حائل، وهي تلك التي، مثل الضيافة بالنسبة لرفيقي المحقق، لم تؤثر على عمل «نزاهة».