الأمن صمام الأمان
الخميس / 29 / ذو القعدة / 1437 هـ - 19:30 - الخميس 1 سبتمبر 2016 19:30
سعادة الدنيا ونعيمها في تحقيق الأمن قال صلى الله عليه وسلم «من أصبح آمنا في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها»، ونعمة الأمن أعظم من نعمة الصحة، قال الرازي رحمه الله «سئل بعض العلماء الأمن أفضل أم الصحة؟ فقال: الأمن أفضل، والدليل عليه أن شاة لو انكسرت رجلها فإنها تصح بعد زمان، ثم أنها تقبل على الرعي والأكل، ولو أنها ربطت في موضع وربط بالقرب منها ذئب، فإنها تمسك عن العلف ولا تتناوله إلى أن تموت، وذلك يدل على أن الضرر الحاصل من الخوف أشد من الضرر الحاصل من ألم الجسد».
فالأمن نعمة، واختلاله شر ونقمة، بل إن اختلاله يؤثر حتى في العبادات -وهو الهدف الأول من خلق الإنسان- ولهذا كانت صلاة الخوف مختلفة عن صلاة الأمن في صفتها وهيئتها، والوضوء واستقبال القبلة يسقطان عند وجود الخوف وذهاب الأمن، وتسقط بفقدها -نعمة الأمن- الجمعة والجماعة.
والحج كذلك يشترط في وجوبه على الإنسان أمن الطريق، فإذا كان الطريق غير آمن فلا يجب عليه الحج، فالمفاسد الكثيرة المترتبة على الاختلال الأمني هو الذي جعل بعض السلف يقول «ستون سنة من إمام جائر أصلح من ليلة بلا سلطان»، وقال ابن تيمية معلقا: والتجربة تبين ذلك.
مما سبق يتجلى لنا بوضوح أن جوهر الشريعة الإسلامية إيمان وأمن يكفل عدالة مطلقة للبشرية جمعاء دون تمييز بين بني آدم الذين خلقوا من نفس واحدة لا فرق بينهم، ولا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى، وأكرمهم عند الله أتقاهم، وأحبهم إلى الله أنفعهم لعباده.
إن الناظر بعين البصر والبصيرة في شريعة الإسلام ليلحظ بوضوح أنها قد جاءت لتحقيق مصالح العباد في العاجل والآجل، وأنها قد حفظت للناس -كافة- حقهم في دينهم وأنفسهم وعقولهم.
يقول ابن القيم رحمه الله إن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل، فالشريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه، وظله في أرضه، وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله، وإن مما أولته الشريعة اهتماما بالغا، بل وجعلته مقصدا من مقاصدها هو حفظ الأمن على المستوى الفردي والجماعي، فالأمن مرتبط ارتباطا وثيقا بالإيمان بهذه الشريعة المباركة، وقد وعد الله عز وجل المؤمنين بالأمن في حياتهم وآخرتهم إذا آثروا الهدى على الضلال، والتقوى على المعصية، والحق على الباطل، كما ورد في «سورة النور آية 55»، وكذلك في «سورة الأنعام آية 82».
فالأمن نعمة عظيمة -لا يعرف قدرها إلا من فقدها- وهو مطلب الناس أجمعين، ومما يدل على ذلك من نصوص الشرع، كما ورد في «سورة البقرة آية 126» حكاية عن إبراهيم عليه السلام، فإبراهيم عليه السلام سأل الله عز وجل أن يمن على مكة بالأمن والرزق -وقدم الأمن على الرزق، ذلك أن الرزق لا يكون له طعم ولا يستطيع المرء البحث عنه إذا فقد الأمن، فبالأمن يهنأ الإنسان ويشعر بلذة الشراب والطعام- فاستجاب الله لدعاء نبيه وخليله، وجعل من مكة مستقرا وبلدا آمنا بإرادته ومشيئته، وجعلها وطنا للإسلام بعد اختياره للمصطفى صلى الله عليه وسلم نبيا عربيا، وخاتما لرسله من صفوة خلقه، ليحمل رسالة الهدى للعالمين، ولتكون مكة مسقط رأسه، وذلك ببركة دعاء إبراهيم عليه السلام.
وموسى عليه السلام لما ألقى العصا -كما أمره ربه- ورأى أنها قد انقلبت إلى حية تسعى، ولى مدبرا ولم يلتفت من شدة الخوف، فهو أحوج ما يكون في مثل هذه الحالة إلى الأمن، فناداه ربه قائلا «يا موسى أقبل ولا تخف إنك من الآمنين»، ونبينا صلى الله عليه وسلم لما من الله عليه بفتح مكة ذكر للناس ما ينالون به الأمن -مما يدل على أهميته عند المؤمنين والكافرين- فقال عليه الصلاة والسلام «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد الحرام فهو آمن»، ولو تتبع المسلم نصوص الكتاب والسنة لعلم يقينا أن الأمن جزء لا يتجزأ من الإسلام، وهو ما أكده النبي صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم رضي الله عنه حين وفد عليه وعرض عليه الإسلام وطمأنه بالمستقبل، فعن عدي بن حاتم قال بينا أنا عند النبي صلى الله عليه وسلم، إذ أتاه رجل فشكا إليه الفاقة ثم أتاه آخر فشكا إليه قطع السبيل، فقال يا عدي هل رأيت الحيرة، قلت لم أرها وقد أنبئت عنها، قال فإن طالت بك حياة لترين الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف أحدا إلا الله، قلت فيما بيني وبين نفسي فأين ذعار طيئ الذين قد سعروا البلاد، ولئن طالت بك حياة لتفتحن كنوز كسرى، قلت كسرى بن هرمز، قال كسرى بن هرمز ولئن طالت بك حياة لترين الرجل يخرج ملء كفه من ذهب أو فضة يطلب من يقبله منه فلا يجد أحدا يقبله منه، وليلقين الله أحدكم يوم يلقاه وليس بينه وبينه ترجمان يترجم له فليقولن له ألم أبعث إليك رسولا فيبلغك فيقول بلى فيقول ألم أعطك مالا وأفضل عليك فيقول بلى فينظر عن يمينه فلا يرى إلا جهنم وينظر عن يساره فلا يرى إلا جهنم، قال عدي سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول اتقوا النار ولو بشقة تمرة فمن لم يجد شقة تمرة فبكلمة طيبة، قال عدي فرأيت الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف إلا الله، وكنت فيمن افتتح كنوز كسرى بن هرمز، ولئن طالت بكم حياة لترون ما قال النبي أبوالقاسم صلى الله عليه وسلم.
ولا يمكن لأفراد المجتمع -أيضا- أن يحصلوا المهارات، ويكتسبوا المعارف، ويبلوروا مواهبهم، وينموا طاقاتهم إلا في ظلال الأمن. والله من وراء القصد.