أمثالنا.. وخطيئة السكوت
الثلاثاء / 27 / ذو القعدة / 1437 هـ - 20:00 - الثلاثاء 30 أغسطس 2016 20:00
في تاريخنا العربي الممتد من المآسي إلى النكبات في ظل ثقافة رفض الآخر ورأي الآخر وفكر الآخر، وتقديم النبذ والتغييب على الحوار والتعايش، عمدت النخب من أصحاب النفوذ والمصالح إلى غرس مفاهيم محددة في العقل العربي تدعم مواقفهم وتحمي مكتسباتهم وتعزز مكانتهم من خلال توسيع وتحوير بعض المفاهيم الدينية، ودعم توطين قيم وأعراف معينة تصب في مصلحتها النهائية، وفي مصلحة المنتمين إليها.
ومن أفضل السبل وأنجحها في غرس مفهوم معين لدى العرب هو إطلاق الأمثال بين الناس وتعهدها بالرعاية والنمو والانتشار حتى تصبح ركائز ومسلمات، حقائق مطلقة، تشكل الفكر وتؤطر الرأي وتخلق القناعات مما ترغب فيه النخب، وبالتالي يتم تغييب شعوب بأكملها بعدد من الأمثال تكون قد ترسخت وتجذرت في عمق الوعي الجمعي لتلك الشعوب، خاصة ونحن نعرف أهمية اللغة في الثقافة العربية.
والمثل هو قول يقوله شخص ما في موقف ما، له مواصفات لغوية محددة كالاختصار وشمولية الدلالة، يتم التقاطه من بعض أفراد المجتمع الذين يعملون على تهذيبه وتشذيبه وبلورته ومن ثم إعادة استخدامه وتوظيفه في مواقف معينة، حتى ينتشر بين الناس ويصبح مثلا أو «يجري مجرى الأمثال» كما يقولون.
بعض الأمثال تتم بلورتها وتوظيفها من قبل النخب لغرس مفاهيم محددة تخدم مصالحها إما بخنق الطموح (مد رجلك على قد لحافك)، أو بردع التطلع (اللي يطالع لفوق يتعب) أو بإلحاق سمة الفضيلة بما ينفع تلك النخب (لحوم العلماء مسمومة)، وسمة الرذيلة بما يضرها (اللي يتطاول على سيده تنكسر إيده). والأمثلة على ذلك كثيرة، بل كثيرة جدا.
هناك أيضا أمثال أطلقت كحِكم وبهدف جيد إذا أخذت بمفهومها العام كالمثل القائل (إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب)، وهي بمعناها المطلق جميلة وصحيحة ولكن ما يحدث هو أن النخب تقوم بتوظيف تلك الأمثال مستغلة قناعة أفراد المجتمع بحكمة المثل وصحة القول وفضيلة الأخذ به لأهداف تخدم أغراض تلك النخب مع تحوير المعنى وتوجيهه الوجهة التي يريدون.
فـ (الكلام) لا يعود على المعنى المطلق وبصفة العموم وإنما يصبح (الكلام) عن النخب وما تقوم به من تجاوزات، وما تحصل عليه من امتيازات و(السكوت) هو السكوت عن الكلام عن النخب وما تقوم به من تجاوزات وما تحصل عليه من امتيازات.
إننا فعلا بحاجة إلى غربلة شاملة لمفاهيمنا وقناعاتنا وقيمنا ومسلماتنا وأمثالنا.. فإذا كان السكوت من ذهب، بالمطلق، فهو في كثير من الأحيان خطيئة..
nmjuhani@makkahnp.com