البلد

"جائزة النشر" رحلة الورق إلى منصة "الجوائز الثقافية الوطنية"

لا تولد صناعة نشرٍ قوية من ورقٍ وحبرٍ فقط، بل من مؤسساتٍ تمتلك رؤية، وتدفع المشهد الثقافي خطوةً إلى الأمام في كل إصدار، ومن منظومةٍ قادرة على تمييز الأعمال النوعية وتقدير الجهود التي تبني ذائقة القارئ وترتقي بالمحتوى. ومن هنا جاءت جائزة النشر ضمن الجوائز الثقافية الوطنية، بوصفها واحدةً من أهم الأدوات التي أعادت تعريف ما يعنيه أن تكون اليوم دارَ نشرٍ سعوديةً ذات مهنيةٍ متصاعدة، وإنتاجٍ يزداد ثراءً، وابتكارٍ يفتح أبواباً جديدة للكِتاب في زمنٍ تتغير فيه طرق القراءة وتتحوّل فيه الأسواق.منذ الدورة الأولى للجوائز في عام 2021، أخذت الجائزة على عاتقها إبرازَ القيمة الحقيقية لمؤسسات النشر بوصفها جزءاً أصيلاً من المشهد الثقافي، لا مجرّد شركات إنتاج كتب. ففي تلك الدورة، برزت ثلاثة أسماء أسست لمرحلةٍ جديدة من الجودة، وهي: العبيكان للنشر والترجمة بما تحمله من تاريخٍ طويل في إثراء المعرفة العربية، ودار كادي ورمادي التي رسخت أدب الطفل واليافعين كمسارٍ جاد يستحق الاحتفاء، ودار أثر التي انطلقت من الرغبة في تقديم محتوىً أدبيٍّ وفلسفي مختلف، لتجد لنفسها حضوراً لافتاً بين المؤلفين والقراء.وفي عام 2022، جاءت مكتبة جرير لتؤكد التحول في منهج بناء صناعة الكتاب السعودية. فالمؤسسة التي جمعت بين النشر والتوزيع وبناء منصات بيعٍ حديثة، قدّمت نموذجاً لمؤسسةٍ تتحرك وفق رؤيةٍ شمولية تستجيب لتغيّر سلوك القرّاء واحتياجات السوق.ثم واصلت الجائزة كشف ملامح مرحلةٍ جديدة مع تتويج دار أدب للنشر والتوزيع عام 2023، تلك الدار التي دفعت بالسرد السعودي إلى فضاءاتٍ أرحب، وقدّمت مجموعةً من الأعمال التي منحت الكُتّاب الشباب منصّةً وواجهة مختلفة. لتليها في 2024 دار التربية القيادية، التي أكدت أن النشر قادرٌ على أن يذهب أبعد من الأدب، ليقدّم محتوىً معرفياً متخصصاً يساهم في تطوير المهارات الإنسانية وبناء الوعي المعاصر.أما الدورة الخامسة لعام 2025 فقد شهدت فوز دار تشكيل، التي جسّدت مفهوماً جديداً للكِتاب الفني، وقدّمت إصداراتٍ ترتكز على التصميم والفنون البصرية، ودفعت بصناعة الكِتاب السعودي نحو مناطق جمالية ومعرفية مختلفة، تعكس نضجاً في التحرير، ورقيّاً في الإخراج، وفهماً متقدماً لسوق الفن والكتاب معاً.إنّ تَتَبُّعَ أسماء الفائزين يكشف تحوّلًا مهماً، فالجائزة لا تكرّم دور النشر لأنها الأكثر إنتاجاً، بل لأنها الأكثر تأثيراً في صناعة الكتب السعودية، والأقدر على تقديم محتوىً نوعي، وعلى تطوير بنيتها التحريرية والتسويقية، وعلى فتح نوافذ جديدة للقرّاء. وهكذا أصبحت الجائزة مرجعاً سنوياً لقياس نبض هذا القطاع، واتجاهاته، وأبرز ملامح تطوره.ومع ارتباط الجائزة بأهداف رؤية السعودية 2030، فإنها لا تعمل بوصفها جائزةً فنية فقط، بل كأداة استراتيجية تعيد تشكيل علاقة المجتمع بالكِتاب، وتُمكّن المؤسسات من الارتقاء بمعاييرها، وتدفع سوق النشر إلى مزيدٍ من الاحتراف، وتمنح الكِتاب السعودي حضوراً أقوى في المشهد العربي والدولي.وبذلك يمكن القول إن جائزة النشر لا تحتفي بالماضي بقدر ما تصنع المستقبل؛ فهي تمنح قطاع النشر قدرةً جديدة على التجدد، وتدفعه إلى أن يكون جزءاً من صناعةٍ ثقافية واسعة، تتجاوز الورق لتصل إلى وعي المجتمع، وإلى صورة المملكة الثقافية التي تتشكل عاماً بعد عام.