الرأي

الدورة الأمريكية القادمة: قراءة جيوسياسية في توازن القوة وتحولات الداخل

فيصل الشمري
حين ندرس المسار التاريخي للولايات المتحدة، نكتشف أن قوتها لم تبنَ فقط على اقتصاد واسع أو تقنية متقدمة، بل على قدرة فريدة على إعادة إنتاج ذاتها كلما وصلت إلى ذروة توتر داخلي.فالأزمات الكبرى لم تكن نقطة ضعف، بل كانت اللحظة التي تغير فيها أمريكا شكلها دون أن تفقد موقعها.اليوم، الولايات المتحدة تقف عند بداية دورة جديدة تختلف عن كل ما سبق. ليست أزمة سياسية، رغم ضوضاء السياسة؛ وليست أزمة اقتصادية، رغم تذبذب الأسواق. إنما هي إعادة تشكل لبنية المجتمع نفسه، وهو ما يجعل تأثيرها جيوسياسيا قبل أن يكون اقتصاديا.هذه الدورة لها ثلاثة أبعاد مترابطة:
  • تحول ديموغرافي يعيد رسم قوة العمل والاستهلاك.
  • تحول اقتصادي يختبر حدود التكنولوجيا وقدرتها على تعويض نقص السكان.
  • تحول استراتيجي يعيد ترتيب موقع أمريكا في النظام الدولي.
أولا: الديموغرافيا كعامل جيوسياسيمعظم الإمبراطوريات عبر التاريخ سقطت أو انكمشت لا بسبب الهزيمة العسكرية، بل بسبب التحول الديموغرافي الذي قلص القدرة العسكرية والإنتاجية.وهذا يضع الولايات المتحدة أمام واقع جديد:
  • معدلات الولادة أقل من مستوى الإحلال.
  • متوسط العمر يواصل الارتفاع.
  • نسبة كبار السن إلى القوة العاملة تشهد أكبر زيادة منذ الحرب العالمية الثانية.
  • بعض الولايات أصبحت تسجل وفيات أكثر من مواليد.
هذه ليست مجرد إحصاءات، بل مؤشر على تغير الهيكل الذي يقوم عليه المشروع الأمريكي:فالديموغرافيا تحدد عدد الجنود، حجم القوة العاملة، قدرة الدولة على تمويل سياساتها الخارجية، واستدامة نموذجها الاقتصادي.والولايات المتحدة - للمرة الأولى منذ قرن - تواجه تناقصا هيكليا في منابع القوة التي اعتمدت عليها.ولكن ما يميز الولايات المتحدة عن غيرها هو الهجرة، وهي السلاح الديموغرافي الوحيد القادر على تأخير الاختناق السكاني. إلا أن الهجرة نفسها أصبحت محل صراع داخلي، ما يجعل قدرتها على استمرار لعب دور استراتيجي كأداة جيوسياسية غير مؤكدة.ثانيا: الاقتصاد الأمريكي... بين تراجع القوة البشرية وتنامي القوة التقنيةاقتصاد الولايات المتحدة قائم على فكرة محورية: أن العامل الأمريكي ينتج أكثر من نظيره في أي مكان آخر.لكن هذه الفكرة تواجه تحديا مزدوجا:
  • تقلص عدد العمال الشباب.
  • ارتفاع نسبة المستهلكين غير المنتجين بسبب طول العمر.
في الأنظمة الإمبراطورية، الإنتاجية ليست مجرد مسألة رفاه اقتصادي، بل أساس لاستدامة النفوذ العسكري والجيوسياسي.فالجيش لا يكون قويا إذا كان المجتمع ضعيفا اقتصاديا، والسياسة الخارجية لا تكون فعالة إذا كان الداخل مثقلا بالإنفاق الاجتماعي أكثر من الاستثمار الاستراتيجي.هنا يدخل الذكاء الاصطناعي كحل محتمل، لكنه ليس حلا نهائيا.الذكاء الاصطناعي يرفع الإنتاجية، لكنه لا يلغي الاحتياج إلى بشر قادرين على الإبداع، اتخاذ القرار، وتحمل مسؤولية القوة العسكرية والاقتصادية.ولهذا، يبقى السؤال مفتوحا: هل تستطيع الولايات المتحدة استخدام التكنولوجيا لتعويض نقص القوة البشرية دون أن تفقد قدرتها على صناعة النخب وإنتاج المعرفة؟ثالثا: البعد الدولي... حين يتغير الداخل تتغير الجغرافيا السياسيةالتحولات الداخلية الأمريكية لم تكن يوما شأنا محليا. كل دورة أمريكية انعكست على شكل النظام العالمي:
  • ما بعد الحرب الأهلية: صعود الولايات المتحدة كقوة صناعية.
  • ما بعد الكساد الكبير: بناء النظام الليبرالي العالمي.
  • ما بعد الحرب الباردة: هيمنة أحادية غير مسبوقة.
لكن الدورة القادمة تأتي في لحظة عالمية معقدة:
  • الصين تحاول ملء الفراغات التي تتركها واشنطن.
  • روسيا تستعيد دورا عسكريا يعتمد على الفوضى.
  • أوروبا تعيش ضعفا استراتيجيا رغم قوتها الاقتصادية.
  • الشرق الأوسط يعاد تشكيله دون مرجعية واضحة.
  • التكنولوجيا تحولت إلى ميدان صراع لا يقل عن الجغرافيا.
في هذا السياق، يصبح التحول الديموغرافي الأمريكي ليس مجرد مسألة داخلية، بل عنصر مؤثر في مدى استعداد واشنطن لخوض صراعات طويلة، وقدرتها على الحفاظ على وجود عسكري واسع، وتحمل كلفة القيادة العالمية.إذا اتسعت الفجوة بين الإنتاج والاستهلاك داخل الولايات المتحدة، سنرى تحولا تدريجيا في استراتيجيتها الخارجية، ليس انسحابا كاملا، بل إعادة توزيع للقوة بما يتناسب مع الواقع الجديد.رابعا: ملامح الدورة القادمةاستنادا إلى مؤشرات الداخل وسياق الخارج، يمكن رسم الملامح التالية للدورة الأمريكية المقبلة:
  • انتقال من القوة البشرية إلى القوة التقنية. الآلة ستعوض جزءا من نقص السكان، ليس بدافع التطور، بل بدافع الضرورة.
  • اعتماد استراتيجي على الهجرة لضمان بقاء القوة العاملة، لكن ضمن نماذج أكثر صرامة وانتقائية.
  • إعادة هيكلة النظام السياسي لأن المؤسسات الحالية صيغت في دورة سكانية مختلفة تماما.
  • استمرار القيادة العالمية ولكن بطريقة جديدة أقرب إلى «التحكم عن بعد» عبر التكنولوجيا والتحالفات، لا الانتشار المباشر الواسع.
  • صراع داخلي مستمر حول تعريف الهوية الأمريكية لأنه مرتبط مباشرة بمسألة: من هو الأمريكي الذي سيحمل العبء الإنتاجي والعسكري القادم؟
الخلاصة الجيوسياسيةالولايات المتحدة تدخل دورة تاريخية جديدة عنوانها: كيف تحافظ دولة قارية مسنة على دور إمبراطوري في عالم يتغير بسرعة؟القوة الأمريكية لن تختفي، لكنها ستتغير. والموقع الأمريكي في النظام العالمي لن يتراجع بالضرورة، لكنه سيتحول من هيمنة مطلقة إلى قيادة مدارة، تعتمد على التحالفات، التكنولوجيا، والقدرة على قراءة التحولات الداخلية بحكمة.وإذا كانت واشنطن قد تأخرت في إدراك حجم التحول الديموغرافي، فإن استيعابه الآن هو الشرط الأول لعبور الدورة القادمة دون اهتزاز مكانتها العالمية.mr_alshammeri@