الرأي

قراءة نفسية في صمت الرجل والمرأة

نيفين عباس
تحدثنا في مقال سابق عن صمت الرجال الذي يتخذه الرجل ملجأ أو منفذا للهروب من ضجيج أفكاره، عكس المرأة التي تبحث عن من يسمعها، فمعظم النساء داخلهن عالم من التفاصيل التي تحتاج إلى آذان صافية دون وقت يقاس بالدقائق، فالاستماع بالنسبة لها ليس رفاهية بقدر ما هو رسالة بأنها مرئية ومفهومة، وذلك يتعارض مع قدرة الرجل الذي يعشق وضوح الفكرة، واختصار التفاصيل التي لا حصر لها.قدرة النساء على التركيز على المحادثات والاستماع أعلى بسبب ارتباط نشاط مناطق بالدماغ مسؤولة عن التواصل واللغة، كمنطقة القشرة الجبهية الأمامية أو منطقة بروكا، بينما الرجل قدرة دماغه على معالجة المعلومات أقصر بكثير، فلا يستجيب لحديثها لأكثر من حوالي أربع دقائق، النساء لا يدركن أن أسئلتهن المتكررة تزيد في رأس الرجل ضجيجا فوق الضجيج، هي تظن أنها تقترب، وهو يراها تحاصره، هي تبحث عن دفء المشاركة، وهو يبحث عن مساحة نجاة، هو إن تكلم خسر هدوءه، وهي إن صمتت خسرت أمانها، وبين هذا وذاك تتهاوى المودة في صراع صامت لا يراه أحد.ليست كل المسافات التي تتكون بين الرجل والمرأة تقاس بالبعد الجسدي، فبعضها يبنى على مدى طويل من الصمت الذي لا يفهم، أو الكلمات التي لم تقال، والفرق هنا ليس في المحبة، بل في جوهر وطريقة التعبير عنها، فسيكولوجية الرجل حين يرهقه الزحام يلوذ بالسكوت ليستعيد صوته، بينما المرأة حين ترهقها الأسئلة تفيض بالكلام، يعتبر الرجل الهدوء حكمة، وتعتبر المرأة الكلام حياة، يرى الرجل أن المشاعر الصادقة لا تحتاج لتكرار، بينما ترى النساء أن الحب الذي لا يقال كأنه لم يكن، والمعادلة الأصعب من ذلك، أن الرجل إذا تحدث كثيرا فقد هيبته في عين المرأة وإن صمت اتهمته بالفتور، وأن المرأة إذا باحت بما في قلبها يخشاها الرجل ويتهمها بالمبالغة ويهرب، وإن صمتت ينكسر شيء في علاقتهما لا ينصلح!كل منهما يرى المشهد من الزاوية التي تؤلمه أكثر، فيفسر من خلالها كل ما يدور حوله، هو لا يفهم حديثها، وهي لا تسمع لغته، وكأن بينهما ترجمانا غائبا، لو علمت النساء كم يؤلم الرجل صمته ويكلفه، لجلسن جواره بصمت يفهمه، دون أن يطالب بتفسير لا يقدر عليه، فصمته ليس جفاء، بل هدوء ما بعد العاصفة، هدنة بينه وبين نفسه من الأيام، ولو علم الرجل كم ترهق المرأة الفجوات التي يتركها غيابه، لقال لها كلمة تطمئنها بدلا من أن يتركها فريسة لتأويلات لا تنتهي، فالرجل حين ينسحب إلى أعماقه، لا يفعل ذلك ضد المرأة، بل لأجل أن يبقى قادرا على البقاء معها، والمرأة حين تفيض بالكلام، لا تفعل ذلك لتحاصره، بل لتمسك بما ينفلت من بين يديها.للمشكلة جذور تعود إلى فترة الخطوبة، فترة الكلمات الناعمة واختلاط السحر بالغموض والوعود بالأبدية، شعور نادر بالاكتمال يبدو فيه كل اختلاف أمرا قابلا للتجاوز، فكل كلمة تقال تستقبل بنوايا إيجابية، وكل تصرف يفهم في سياق الحب والاندفاع الأول، فترة وردية تتراقص فيها الكلمات بين طرفين بحرية، تفهم المشاعر بسهولة، وتغدو المفاهيم واضحة، لكن ينهار التوازن حين لا يفسر بشكل واقعي فكرة أن كل طرف قابل للتغيير بعد الزواج، فالمرأة تحمل في صدرها أملا رقيقا يهمس بأنها ستملك مفتاح تغييره بعد الزواج، لأنها ترى حينها أن عاداته ستتبدل، ستلين قسوته، سيصبح أمامها أكثر اهتماما وحساسية، فيأتي الزواج، وتأتي معه الصدمة المحملة بحكم الحياة الذي يقف أمام هذا الأمل ويحطمه بجدار الواقع، بعيدا عن الفكرة الرومانسية لأن الرجل لا يقبل المساومة، وخاصة إن كان صريحا منذ البداية وكشف عن طباعه دون تزييف أو مواربة، فتتبدل اللوحات والمساحات، وتختلف الزوايا التي ينظر منها كل طرف؛ فمسؤوليات الرجل بعد الزواج لا تعرف اللين، فتتصادم توقعات الزوجة مع ضغوطات الزوج، وتصاب بخيبة أمل وتعيش أوهاما تهدر الوقت والمشاعر والكرامة، فتشعر أن أحلامها معه بنيت على قصر من الرمال تلاشت بين يدي الريح، وهو يشعر أنه كتب معها على صفحة بيضاء قصة لم يملأها سوى باسمه، فتتداعى لذهنه مقولة الكاتب الروسي دوستويفسكي في رواية حلم رجل مضحك حين قال: وقد بلغت من شدة عدم اكتراثي أنني تمنيت في النهاية أن أقبض على دقيقة واحدة أحس فيها أن شيئا ما يستحق الاهتمام.، فالآن لم يعد يكترث لما يدور، فالتفسيرات تتبدل بين الصمت والكلام، لم يعد يقاس الاهتمام بما كان في السابق، بل بما يعطي كل طرف أكثر مما يحتمل وسط متطلبات الحياة والأبناء وما يجوز وما يتعارض.تعد هذه المرحلة تحديدا هي الأخطر، لأنها تظهر الاختلافات الحقيقية في الشخصيات، فترة تجبر الطرفين على إعادة قراءة أنفسهما بوضوح ويصبحان أمام خيارين لا ثالث لهما، إما فهم الآخر وتقبله أو التسبب في شرخ بالعلاقة لا يرمم، كل كلمة أو صمت حجر ميزان، كل موقف هو فرصة لتقييم الحب في إطار الحياة الواقعية البعيدة عن عالم الأحلام السابقة، مسافة بين ما كان وما أصبح، فالزواج مدرسة صعبة، لأنه يختبر قدرة كل طرف على فهم الآخر من دون الكلمات، على قراءة صمته كما لو كان خطابا مكتوبا على صفحة عاطفة صامتة، على إدراك أن كل اختلاف بين طريقة تقييم الرجل والمرأة للأمور ليس رفضا أو خصاما، بل انعكاس لطرق تربية وثقافات وخبرات مختلفة.الحياة الزوجية تمثل تحديا يوميا، بين كلام غير مفهوم وصمت له معان، بين مشاعر متشابكة وأفعال محسوبة، بين عقل يحاول السيطرة على الفوضى وعاطفة تسعى لأن تعاش، ومن يفهم صمت الرجل كهدوء ومسؤولية، ويقرؤه بعين الحكمة، يجد الطريق إلى توازن حقيقي في الحياة، حيث يكمل كل طرف الآخر دون أن تهدر الكلمات أو تفسر النوايا خطأ.وفي النهاية لا يبقي سوى التساؤل الذي طرحه دوستويفسكي في رواية الليالي البيضاء «وتتساءل: أين هي إذن أحلامك؟ وتهز رأسك قائلا: كم تطير السنوات سريعا! وتتساءل من جديد: ماذا فعلت بسنواتك؟ أين دفنت أفضل وقتك؟ هل عشت؟ نعم أو لا؟ انظر، كم هو هذا العالم بارد. سنوات أخرى ستمر، وتعقبها الوحدة الحزينة والشيخوخة المرتعشة مع عكازها، وبعد ذلك الضجر واليأس، سيشحب عالمك الخيالي، ستموت، ستذبل أحلامك، وستسقط كما تهوي الأوراق الصفراء من الأشجار». ويمضي العمر ولا نجد إجابات.NevenAbbass@