(أمريكا أولا) المستقبل الأمريكي
الثلاثاء / 11 / جمادى الآخرة / 1447 هـ - 22:31 - الثلاثاء 2 ديسمبر 2025 22:31
في السنوات الأخيرة، ظهرت حركة «أمريكا أولا» كواحدة من أكثر التيارات تأثيرا داخل اليمين الأمريكي، لكنها مع مرور الوقت أخذت شكل كيان مستقل نسبيا عن الحزب الجمهوري، حتى بات البعض يراها انشقاقا ناعما يعيد رسم الخريطة السياسية للمحافظين في الولايات المتحدة. بدأت الحركة كشعار رفعه دونالد ترامب في حملته عام 2016، إلا أن الشعار تحول تدريجيا إلى مشروع سياسي متكامل يقوم على القومية الاقتصادية والانسحاب النسبي من التزامات السياسة الخارجية التقليدية، إلى جانب خطاب شعبوي يخاطب الطبقات العاملة والناخبين الساخطين على سياسات الحزبين.
هذا التحول أوجد فجوة واسعة بين الحركة والجمهوريين التقليديين الذين حافظوا لسنوات على نهج اقتصادي نيوليبرالي ورؤية دولية قائمة على التدخل الخارجي. مع ذلك، اتسعت قاعدة «أمريكا أولا» إلى درجة جعلت الحزب الجمهوري نفسه مضطرا للتكيف مع خطابها، رغم أن الخلافات بقيت ظاهرة في ملفات كالهجرة والسياسة الخارجية وتمويل الحرب في أوكرانيا. وتبدو ملامح الانفصال واضحة في البنية الإعلامية الجديدة المصاحبة للحركة، حيث برزت منصات مستقلة تنافس الإعلام المحافظ التقليدي وتخاطب جمهورا أكثر راديكالية في نظرته للمؤسسة السياسية.
يقف دونالد ترامب في قلب هذا المشروع باعتباره القائد الرمزي للحركة وصاحب التأثير الأكبر على جماهيرها. وإلى جانبه صعدت شخصيات نافذة داخل الكونغرس مثل مات غيتس ومارجوري تايلور غرين اللذين مثلا الصوت الأكثر تمردا على القيادة الجمهورية التقليدية. كما برز السيناتور جي دي فانس بصفته نموذجا للجيل الجديد من السياسيين الشعبويين الذين يميلون إلى خطاب اقتصادي قومي قريب من مصالح الطبقة العاملة. ويظل ستيف بانون أحد أهم المنظرين في هذه المنظومة، بعدما أسس شبكة إعلامية واسعة تعزز رواية الحركة وتمنحها قدرة كبيرة على التأثير اليومي في جمهورها.
مستقبل «أمريكا أولا» ما زال مفتوحا على عدة احتمالات. فالحركة تبدو اليوم أكثر قربا من السيطرة على الحزب الجمهوري، خصوصا مع تراجع نفوذ الجناح التقليدي وصعود المرشحين المنتمين إلى التيار الشعبوي. غير أن بعض المراقبين يرون أن الفجوة الفكرية قد تتسع يوما ما إلى درجة تدفع الحركة لتشكيل كيان سياسي مستقل، خاصة إذا تصاعدت الخلافات حول دور الولايات المتحدة الدولي. ومع ذلك، يبدو السيناريو الأكثر واقعية هو استمرار الحركة ضمن الحزب، ولكن بصفتها القوة المهيمنة التي تعيد تعريف هوية اليمين الأمريكي.
وإلى جانب السياسيين، تتوسع الحركة باستمرار عبر مؤثرين جدد من خارج المؤسسة الحزبية مثل تاكر كارلسون ونيك فوينتس وكاندس اوين. فقد أصبح الفضاء الرقمي أرضا خصبة لنشوء أصوات شبابية تتبنى خطاب «أمريكا أولا»، سواء عبر البودكاست أو منصات الفيديو أو شبكات التواصل. كما أبدى بعض رجال الأعمال الساخطين من سياسات شركات التكنولوجيا اهتماما متزايدا بخطاب الحركة، في حين يقترب منها إعلاميون وصناع محتوى يركزون على قضايا «الحرب الثقافية» مثل التعليم والهوية والحرية الفردية. هذا الخليط المتنوع يمنح الحركة القدرة على التجدد واستقطاب شرائح جديدة لا ترتبط مباشرة بالحزب الجمهوري.
في المحصلة، لم تعد «أمريكا أولا» مجرد موجة سياسية مرتبطة بصعود ترامب، بل تحولت إلى تيار متكامل يعيد تشكيل اليمين الأمريكي من الداخل. ومع توسع تأثيرها الإعلامي والجماهيري، يبدو أن الحركة مرشحة للبقاء كلاعب مركزي في السياسة الأمريكية، سواء استمرت كجناح قوي داخل الحزب الجمهوري أو تطورت في المستقبل إلى تيار مستقل بملامح واضحة.