الرأي

الاستثمار المسؤول... ولادة حوكمة جديدة في السعودية

حاتم بارجاش
حين نتأمل حجم الاتفاقيات التي وقعتها السعودية مؤخرا مع الولايات المتحدة - من الذكاء الاصطناعي إلى الطاقة النووية، ومن المعادن الاستراتيجية إلى الاستثمارات الضخمة في قطاعات المستقبل - نكتشف أن المملكة لا تمارس 'صفقات تجارية'، بل تبني نموذجا جديدا من الحوكمة الاقتصادية... نموذجا يجعل الاستثمار مسؤولا، ومنظما، ومتصلا بالمصلحة الوطنية قبل العائد المالي. العالم اليوم لا ينجذب إلى الدول التي تصرف أكثر، بل إلى الدول التي تحكم استثمارها، وتحول كل ريال وكل شراكة إلى قيمة طويلة الأجل. وهذا بالضبط ما تفعله السعودية الآن.

من الاتفاقيات الكبرى... إلى هندسة الاستثمار

الاستثمار التقليدي كان ينظر إلى الخارج بشكل انتقائي: صفقة هنا، مشروع هناك، وربما تحالف محدود. لكن ما نراه اليوم مختلف تماما: نرى هندسة استثمارية قائمة على رؤية، ومؤسسات، ووضوح دور، وتكامل بين الجهات الحكومية والسيادية.

الاتفاقيات الأخيرة ليست نصوصا توقع... بل إطارات حوكمية تربط فيها: السيادة الاقتصادية والأمن التقني والطاقة المستقبلية وسلاسل الإمداد العالمية وبناء القدرات الوطنية. هذه ليست صفقات... إنها سياسة دولة.

الاستثمار المسؤول... ليس أقل من 'حوكمة'

المملكة اليوم لا تبحث عن الاستثمار كهدف مستقل، بل كأداة استراتيجية لخلق تنمية مستدامة ومنضبطة. الاستثمار المسؤول يعني وضوح معايير الدخول والخروج وتقييم المخاطر قبل العوائد، وحماية البيانات والسيادة التقنية ومواءمة الاستثمار مع المصلحة الوطنية، وتوزيع الأدوار بين الجهات التنفيذية والرقابية وشفافية في الإفصاح والمساءلة. بهذا المعنى، الاستثمار ليس مالا... بل نظام حوكمة متكامل.

السعودية تبني 'حوكمة الاستثمار' لا 'جاذبية الاستثمار' فقط

الدول قد تنجح في جذب الأموال، لكن الفارق الحقيقي هو كيف تحكم هذه الأموال بعد وصولها. وهنا تتفوق السعودية: نظام مالي منظم - هيئات رقابية متقدمة - استقلالية مؤسسية - شفافية أعلى - تكامل بين الوزارات والصناديق - مجلس أعلى يرسم الاتجاه ويضبط الإيقاع

ولهذا أصبحت المملكة شريكا مؤسسيا حقيقيا مع القوى العالمية وليست مستهلكا ولا تابعا.

كيف ترتبط الحوكمة بالاتفاقيات الجديدة؟

كل اتفاقية كبرى هي اختبار حوكمي:

- اتفاق الطاقة النووية يحتاج نظاما واضحا للأمان والمراقبة.

- اتفاق الذكاء الاصطناعي يحتاج إطارا لحوكمة البيانات والخوارزميات.

- اتفاق المعادن يحتاج رقابة على سلاسل الإمداد.

- الاستثمارات الضخمة تحتاج شفافية ومساءلة.

- والشراكات الدفاعية تحتاج وضوح أدوار وصلاحيات.

لذلك، ما يميز السعودية اليوم ليس حجم الاتفاقيات... بل جاهزية مؤسساتها لحوكمتها.

السعودية... من الاستثمار إلى التأثير

هناك فرق بين الدول التي تستثمر... وبين الدول التي تعيد تشكيل البيئة الاستثمارية العالمية.
وهذا ما نراه الآن: السعودية شريك رئيسي في المعادن الاستراتيجية التي يعتمد عليها انتقال الطاقة عالميا - رائدة إقليمية في الذكاء الاصطناعي وتحكم البيانات - لاعب محوري في استثمارات الطاقة المستقبلية - قوة اقتصادية تمتلك رؤية واضحة لا تدار بعاطفة السوق، بل بمنهج الحوكمة. هذه ليست مشاريع منفصلة، بل ولادة حوكمة استثمار وطنية جديدة.

الختام: الحوكمة قبل العائد

حين تدار الاستثمارات بالرؤية والحوكمة، لا تعود مجرد أموال تنتقل بين الأسواق، بل تتحول إلى بنية تحتية وطنية للمستقبل. السعودية اليوم لا تبحث عن 'أكبر استثمار'... بل عن أذكى استثمار، وأكثرها اتساقا مع سيادتها ورؤيتها ومؤسساتها.

ولهذا يمكن القول بثقة: نحن نشهد ولادة حوكمة استثمارية سعودية جديدة... تعيد تعريف معنى القوة الاقتصادية للدول.